حينما نتوقف عند الآية (21) من سورة الروم، يدرك المرء أنها تتجاوز الوصف الاجتماعي التقليدي. إنها ليست مجرد دعوة للزواج، بل هي وضع لأساس عميق يرتكز عليه وجودنا البشري برمته. الله سبحانه وتعالى لا يصف الزواج فحسب، بل يضع خريطة بناء متكاملة. والأساس هنا يتكون من ثلاثة أركان صلبة: الخلق من النفس، السكن، والمودة والرحمة.
سرّ الخلق: "مِنْ أَنفُسِكُمْ"
يبدأ النص بقوله: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا". وهذه نقطة تحتاج وقفة طويلة. لماذا "من أنفسكم"؟ لم يقل الله خلق لكم أزواجًا من طين آخر أو من مادة مختلفة تمامًا. لا. بل خلقهم من ذاتكم.
الخلق من النفس يشير إلى التوافق الجوهري، إلى أن الطرف الآخر ليس كائنًا غريبًا بل هو امتداد للذات البشرية. هذا التصميم يضمن القبول الأولي؛ القبول الفطري. نحن نتشارك نفس التركيب البيولوجي، ونفس الاحتياجات النفسية الأساسية. (وهذا ما يغفله الكثيرون في بحثهم عن الكمال المطلق).
علماء الاجتماع اليوم يتحدثون عن أهمية التوافق النفسي والاجتماعي لتحقيق استقرار الشراكة. والآية تلخص كل ذلك بكلمتين فقط: "من أنفسكم". هذا يعني أن الزوجين يشتركان في جوهر الإنسانية، ويتحدان في مواجهة العالم الخارجي. إنها عملية دمج؛ لا لغرض الذوبان، بل لغرض التكملة.
الهدف الأسمى: "لِّتَسْكُنُوٓا۟ إِلَيْهَا"
كلمة "لتسكنوا" تحمل ثقلاً لا يمكن تجاهله. السكن ليس مجرد إقامة في مكان واحد. السكن هو الاستقرار الروحي، هو الأمان بعد الخوف، هو الهدوء بعد عناء العمل وضجيج الحياة. إن الزوجة أو الزوج، في هذا التصميم الإلهي، يعمل كـ "مرساة" ترسي سفينة القلب المضطربة. وعند الشعور بالسكن، يهدأ القلب كأنما عاد المرء إلى غرفته المفضلة، حيث لا ضجيج خارج الباب.
و"السكن" هو الجدار الواقي الذي يحمي الإنسان من القلق الوجودي. كثير من الناس يبحثون عن السكن في المال، أو الشهرة، أو الإنجازات المهنية. لكن الآية تحدد مكانه بدقة: هو في العلاقة مع الشريك، في وجود شخص يفهم الصمت ويفهم الكلمات التي لم تُقل بعد.
هذا السكن يتطلب بذلاً. لا يأتي تلقائياً. إنه نتيجة ثقة متبادلة وإحساس دائم بأن هذا المكان آمن. إن بناء هذا الملجأ النفسي هو المهمة الأولى للزواج. وفي غياب هذا السكن، تتحول البيوت إلى فنادق باردة، لا يشعر فيها أحد بالانتماء الحقيقي.
ثنائية القوة: "مَّوَدَّةًۭ وَرَحْمَةً"
ربما تكون هذه هي العبارة الأكثر جمالًا والأكثر تعقيدًا في الآية كلها. فالله لم يقل "وجعل بينكم حباً" فقط، بل جمع بين صفتين متكاملتين: "مودة ورحمة".
المودة (الحب النشط):
المودة هي التعبير الظاهر للحب. إنها الأفعال الصغيرة والكبيرة. إنها الجاذبية، الاهتمام، الكلمات اللطيفة، الضحكة السريعة التي تتبادلونها عند تناول القهوة صباحاً (هذا الشعور لا يضاهيه شيء). المودة هي الوقود الذي يشعل البدايات ويجعل الحياة اليومية مبهجة. هي العشق القائم على الاختيار الحر والميل القلبي.
لكن المودة وحدها لا تكفي. ما يحدث في العلاقات الإنسانية هو أن المودة قد تتأثر بالزمن، وبالضغوط، وبالتعب. لذا، كان لا بد من الركن الثاني:
الرحمة (الحب الصابر):
الرحمة هي الصمام الذي يحفظ العلاقة عندما يخفت نور المودة. إنها الحب الذي يستمر حتى في أصعب الظروف. هي أن ترى عيوب شريكك، وتتذكر فضائله. هي التغاضي عند الخطأ، والمساندة عند الضعف. الرحمة هي الشعور العميق بالالتزام تجاه الطرف الآخر لأنه "من نفسك". (وهذا ما يجعل الزواج مؤسسة وليست مجرد مشاعر).
إن العلاقة الزوجية الصحية تعمل بمحركين: محرك المودة يدفعها إلى الأمام في الأيام المشرقة، ومحرك الرحمة يمنعها من الانهيار في الليالي المظلمة. ومن لا يعرف هذه المعادلة، يعتقد أن الزواج يجب أن يكون سعيدًا طوال الوقت، وهذا وهم. بل يجب أن يكون متراحمًا طوال الوقت.
دعوة للتفكر: "لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ"
تختتم الآية بعبارة لا تترك مجالاً للصدفة: "إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون". إنها دعوة للتأمل، للتعامل مع الزواج ليس كواقع مفروض، بل كعلامة كونية تتطلب الفهم والتدبر.
التفكر هنا يعني التحليل. يعني أن تتوقف وتسأل: هل بيتي الآن فيه سكن؟ هل يغلب عليه صوت المودة أم صوت الرحمة؟ و متى يجب أن أقدم هذا ومتى أقدم ذاك؟ هذه الأسئلة هي جوهر الاستقرار. فالعلاقة ليست شيئاً جاهزاً يُستهلك، بل هي بناء مستمر، بناء يحتاج إلى إشراف يومي ومراجعة صادقة للنوايا والأفعال.
والحياة المعاصرة، بكل ما فيها من إلهاء وتشتت، تجعل التفكر في هذه الآية ضرورة قصوى. فبينما يرى البعض الزواج عقداً مدنياً فقط، يراه النص الإلهي "آية" من آيات الخلق، دليلاً على وجود نظام كوني متكامل، ونظام نفسي يحتاج إلى توازن دقيق بين العاطفة والصبر. هذا هو سر العلاقة الزوجية الدائم: أن تبدأ بانسجام الخلق، وتستمر بالسلام، وتُحفظ بالحب العملي والرحمة الغافرة.
