المشاركات

الفقر إلى الله: باب الغنى الحقيقي والسعادة

اكتشف كيف يفسر القرآن حاجة الإنسان المطلقة لله وغنى الله اللامتناهي، وكيف يقود هذا الفهم إلى حياة ملؤها السكينة. تدبر في آية فاطر 15.

 

صورة تعبر عن حاجة الإنسان لله تعالى كمصدر للغنى والسعادة الحقيقيين، مع يدين مرفوعتين بالدعاء.

يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ ۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ. هذه الكلمات، من سورة فاطر، آية 15، ليست مجرد نصوص نتلوها. بل هي حقيقة حياتية، قاعدة تضبط فهمنا للعالم ولأنفسنا. إنها ترسم لنا صورة واضحة لوضعنا، وتخبرنا أيضاً عن عظمة الخالق. وقيمتها الحقيقية تظهر عندما نتوقف عندها بجد، (تلك وقفة لا بد منها). تُعيد ترتيب الأولويات داخل أرواحنا.

فهم: "أنتم الفقراء إلى الله"

عندما نسمع كلمة "فقر"، غالبًا ما يذهب تفكيرنا للمال، للجيب الفارغ. ولكن الآية تتحدث عن فقر أوسع بكثير، فقر شامل يلامس كل جوانب وجودنا. فالحاجة إلى الله لا تقتصر على الفقر المادي، بل تمتد لتشمل كل شيء. أليس هذا واضحًا؟

الفقر المادي والمعنوي: ننظر حولنا. الإنسان، مهما جمع من مال، أو بنى من قصور، يظل في حاجة دائمة. يحتاج للطعام والشراب، للهواء الذي يتنفسه كل ثانية، للشمس التي تدفئ أرضه. وتلك الأشياء، (لا يملكها أحد)، كلها بيد خالقها. ومن ثم تأتي حاجته للصحة، للعافية، للأمان. ولكم رأينا أغنياء العالم يطلبون الشفاء، يبحثون عن راحة البال التي لا تُشترى بالمال. القلب البشري، (هذا العضو الصغير)، يحتاج إلى طمأنينة، إلى حب، إلى معنى لحياته. وبصراحة، بدون الله، يظل هذا القلب فارغًا، يبحث عن شيء لا يجده في البشر ولا في الماديات. إنه فقر عميق، فقر في الروح، في الفكر، في كل ما يجعله إنسانًا سويًا.

فقر الوجود ذاته: حتى وجودنا، مجرد وجودنا، هو فقر. لم نخلق أنفسنا، ولم نحدد متى نأتي أو متى نرحل. نحن لسنا أصحاب قرار في هذه المسألة الأساسية. هذه الأجساد، (هذه التوليفة المعقدة)، تعمل بنظام دقيق لا نملك التحكم فيه بشكل كامل. قلب ينبض، رئتان تتنفسان، عقل يفكر؛ كل هذا يعمل بإذن وتدبير من هو أوسع منا وأعلى. وكل نفس نأخذه، وكل نبضة قلب، تدل على اعتمادنا التام على قوة تفوقنا. مثل شجرة لا تثمر إلا بماء السماء، هكذا نحن بلا مدبر يروي وجودنا.

"والله هو الغني الحميد": غنى بلا حدود، وحمد مستحق

بعدما بيَّنت الآية فقرنا، تنتقل لتصف لنا الطرف الآخر من المعادلة: الله. تصفه بالغني، ثم تصفه بالحميد. هاتان صفتان عظيمتان تُرسمان صورة واضحة عن عظمة الخالق.

الغني المطلق: كلمة "الغني" هنا ليست كغنى البشر. غنى البشر يأتي من جمع، وقد يزول. أما غنى الله، فهو غنى ذاتي مطلق. لا يحتاج لأي شيء من خلقه. لا يزيد ملكه بطاعتنا، ولا ينقص بمعصيتنا. (هذا أمر بدهي، لكن قد ننساه). يملك كل شيء، يعطي بلا حدود، ولا يفرغ خزائنه أبدًا. الشمس، (تلك الكتلة الهائلة)، لا تستمد نورها منه، بل هي من خلقه. والأرض، بمائها وهوائها، من فيض عطائه. هو مصدر كل غنى، وكل قوة، وكل جميل.

الحميد المستحق للحمد: وعندما نقول "الحميد"، فهذا يعني أنه سبحانه مستحق لكل حمد وشكر. ليس لأنه محتاج لثنائنا، بل لأن ذاته وصفاته وأفعاله، وكل ما يخرج منه، جدير بالحمد المطلق. يحمد على خلقه، على تدبيره، على عطائه، على رحمته، وعلى عدله. حتى على فقرنا الذي بيَّنه لنا، فيه حكمة تستحق الحمد، لأنه يرشدنا للغنى الحقيقي. (هذا ما يجعلنا نبتسم)، فالحقيقة دائماً تبعث على الطمأنينة.

رحلة التحول: من فقر إلى غنى حقيقي

فهم هذه الآية ليس مجرد معرفة نظرية. بل هو نقطة تحول عملية في طريقة عيشنا. عندما نستوعب فقرنا المطلق لله، وغناه المطلق، تتغير نظرتنا للحياة.

التواضع يفتح الأبواب: أول ما يترسخ في القلب هو التواضع. معرفة أننا لا شيء بلا الله تجعل الغرور يتلاشى. وهذا التواضع يفتح أبوابًا للفهم، ولتقبل الحق، وللتعامل مع الناس بلين ورفق. (أتحدث عن تجربة)، كلما تواضع الإنسان، زاد رفعة.

التوكل: مصدر القوة: ثم يأتي التوكل. حين ندرك أن كل شيء بيد الله، وأننا فقراء إليه في كل أمر، نضع ثقتنا فيه وحده. نعمل، نجتهد، نسعى، ولكن مع يقين بأن النتائج ليست بأيدينا. وهذا اليقين يمنح قوة داخلية لا تهتز أمام الصعوبات. فمن يثق في الغني المطلق، لا يخاف الفقر أبدًا. ولكن هذا لا يعني ترك العمل، (أبدًا، بل العمل الصالح مطلوب).

القناعة والشكر: دروب السعادة: وهذا التوكل يقود إلى القناعة والرضا بما قسم الله. والقناعة هي الكنز الذي لا يفنى. من يقنع بما أعطاه الله، يشعر بالغنى حتى لو كان يملك القليل. (القناعة كنز لا يفنى، أقولها بصدق). ويتبع ذلك الشكر الدائم، الذي هو مفتاح المزيد. شكر الله على نعمه، الظاهرة والباطنة، على ما أخذ وما أعطى، لأن كل شيء منه هو الخير.

تطبيقات عملية في حياتنا اليومية

هذا الفهم لا يبقى حبيس القلوب، بل ينعكس على كل تفاصيل حياتنا:

  • في الشدائد: عندما تضيق الأمور، وتهب رياح المصائب، (والتي لا مفر منها)، يتذكر العبد فقره لله، ويلجأ إليه وحده. يعرف أن الغني وحده هو القادر على رفع البلاء، على تفريج الكرب. هذا يُحدث هدوءًا عجيبًا في النفس.
  • في الرزق: السعي للرزق يصبح عبادة، وليس هدفًا بحد ذاته. نعمل بجد، ولكن قلوبنا متصلة بالرازق. فلا قلق زائد على المستقبل، ولا حسد على ما في أيدي الآخرين. (وبصراحة، الحسد يرهق صاحبه).
  • في العلاقات: نفهم أن حاجتنا للناس هي جزء من فقرنا، ولكن حاجتنا لله هي الأساس. فلا نُعلق آمالنا كلها على البشر، ولا ننتظر منهم ما لا يملكونه، فكل ما لديهم هو من الله.

الخاتمة

إن آية "يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ ۖ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ" هي دعوة صادقة لإعادة تقييم الذات والكون. هي بوصلة ترشدنا إلى حقيقة وجودنا. وعندما نتمكن من استيعاب هذه الحقيقة، نجد أنفسنا قد تخلصنا من كثير من الأعباء والقلق. ونُدرك أن الغنى الحقيقي ليس بجمع الأموال، (وإن كانت مهمة)، بل بفقر القلب إلى الله، وثقته المطلقة بغناه وحمده. عندها فقط، تنفتح أمامنا أبواب السكينة، والرضا، والسعادة التي لا تزول.

إرسال تعليق