في قلب الحياة، مع كل تقلباتها، تبرز آية من كتاب الله كمرساة للأرواح التائهة، وبلسم للقلوب المتعبة. "وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّۢ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍۢ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌۭ" (يونس: 107). هذه ليست مجرد كلمات، بل هي دستور حياة، وحقيقة كونية تتجاوز الزمان والمكان. إنها تضع الأمور في نصابها الصحيح، تذكرنا أين تكمن القوة الحقيقية، وإلى من نلجأ عندما تضيق بنا الدروب.
الضر: حين تشتد الأزمة ولا معين سواه
تخيل معي أنك تمشي في طريق مظلم، وفجأة يعترضك أمرٌ جلل. ربما مرضٌ يفتك بالجسم، أو ضائقة مالية تسد كل الأبواب، أو فقدٌ مؤلم يعصر الروح. في تلك اللحظات، يبحث الإنسان بطبعه عن مخرج. يلجأ إلى الأطباء، إلى الأصدقاء، إلى المال، إلى كل سبب مادي يراه أمامه. ولكن، هل فكرت يومًا بعمق في قوة هذه الآية؟ "فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَ".
إنها عبارة قاطعة، لا تحتمل الشك أو التأويل. لا أحد، لا أحد سواه يستطيع أن يزيح عنك هذا الضر. تذكر تلك اللحظة التي شعرت فيها بالعجز التام، حينما اجتمع عليك كل ما يمكن أن يرهق، وحينها أدركت أن الأسباب البشرية قد خذلتك. هنا بالضبط، يهمس القرآن بهذه الحقيقة. الطبيب يعالج، والصديق يواسي، والمال قد يشتري بعض الحلول، لكن الكاشف الحقيقي للضر، الذي يرافعه من أصوله، هو الله وحده. وكأن الدنيا كلها، بكل أسبابها، تتوقف عن العمل حين يشاء الله، ثم لا تعود لتعمل إلا بإذنه. هذا الشعور بالأمان المطلق، حتى في قعر الهاوية، هو ما تمنحه الآية. إنها تعلمك أن تقيم ظهرك، (فقط قليل من الصبر)، وتنظر إلى الأعلى.
فالضر، بأشكاله المختلفة، ليس بالضرورة عقاباً، بل قد يكون تطهيراً، أو رفعاً للدرجات، أو تذكرة بأن كل شيء بيد الله. هو يذكرنا بحاجتنا المطلقة إليه، ويقطع تعلق قلوبنا بالمخلوق. حين يشدد الله على الإنسان، فإنه يهيئ قلبه لكي يتعلق به وحده. هذا ليس كلامًا نظريًا، بل هو شعور يغمر الروح بالسكينة حين تدرك أن مصيرك كله بيده، وأنه إن أراد رفع عنك البلاء، فلن يقف أمامه شيء.
الخير: حين تفتح الأبواب وتتدفق النعم
وبالمثل، "وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍۢ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌۭ". كم مرة نسبت النجاح لذكائك، للصبر الذي بذلته، للفرصة التي سنحت لك؟ كم مرة نسيت المنعم الحقيقي في زحمة الأفراح؟ الآية تعيد توجيه بوصلة القلب. كل خير يصيبك، صحة، عافية، رزق وفير، أبناء صالحون، راحة بال – كل ذلك من الله. هو الذي يمدك به، وهو الذي بيده أن يثبته لك أو يزيله.
القوة التي منحتك الصحة، وقدرة العقل على التفكير، والموارد التي بين يديك، كلها هدايا منه. إنه قدير على كل شيء. قدرته لا يحدها حد، ولا يعجزها أمر. فكما أنه قادر على رفع الضر عنك، فهو قادر على إغداق الخير عليك، وعلى تثبيته لك، أو زيادته. وهذه القدرة المطلقة تدعو إلى الشكر العميق، لا إلى الغرور أو نسيان المصدر الحقيقي للنعم.
إن الإدراك بأن الخير من الله يولد في النفس تواضعاً حقيقياً. يجعلك ترى نفسك مجرد مستلم، لا منتجاً أصيلاً. وهذا التواضع بدوره يفتح أبواباً أوسع للخير، لأن الشاكرين تزداد نعمهم. "لئن شكرتم لأزيدنكم". (كلمات الله هذه لا تُنسى).
نقطة الاتصال: الإيمان بالقدرة المطلقة
الرابط الجوهري بين شقي الآية هو القدرة المطلقة لله. لا فرق عنده بين رفع ضر عظيم، أو منح خير وفير. كلاهما سهلان عليه. وهذا الفهم يحرر الإنسان من قيود القلق والخوف. فلماذا القلق من المستقبل إن كان الخير والضر بيده وحده؟ ولماذا اليأس إن كان بيده كشف الضر؟ ولماذا الغرور إن كان الخير كله منه؟
تخيل معي، لو أنك تحمل مفتاح بيتك، وتعرف أنك الوحيد القادر على فتحه وإغلاقه. تشعر بالتحكم، أليس كذلك؟ والله سبحانه وتعالى يخبرنا أنه يملك مفاتيح كل شيء، مفاتيح الخير والشر، الضيق والسعة، الصحة والمرض. هذه ليست مجرد تشبيهات، بل هي حقائق. وهذا الإيمان بالقدرة المطلقة يؤسس لثلاثة أركان أساسية في حياة المؤمن:
- التوكل المطلق: وضع الثقة الكاملة في الله، بعد الأخذ بالأسباب. تعلم أن نهايات الأمور بيده، فيطمئن قلبك.
- الصبر الجميل: عند نزول الضر، تتذكر أن كاشفه هو الله وحده، فتهدأ نفسك وتنتظر الفرج منه.
- الشكر الدائم: عند حلول الخير، تعلم أنه من فيضه وكرمه، فتشكره وتنسب الفضل إليه. لا ترى لنفسك حولاً ولا قوة.
وهكذا، تصبح الحياة رحلة من التسليم والطمأنينة. يصبح كل حدث، سواء كان ساراً أو مؤلماً، فرصة للعودة إليه، للتعلق به، ولرؤية حكمته وقدرته. هذه الآية، على قصرها، تلخص جوهر الإيمان، وتمنح الإنسان بوصلة لا تخطئ في بحر الدنيا المتلاطم. إنها تذكرة يومية: لا تشغل بالك كثيراً، (أقول لك هذا بصدق)، الله هو المدبر. وهو سبحانه قدير على كل شيء.
الخاتمة: دعوة للعيش بسلام
في النهاية، تذكر هذه الكلمات جيداً: "وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرٍّۢ فَلَا كَاشِفَ لَهُۥٓ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍۢ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌۭ". اجعلها نبراساً لحياتك. فكلما حل بك هم، ارفع يديك بصدق، وكلما نلت نعمة، احمد الله بامتنان. هذه الآية ليست مجرد تلاوة، بل هي منهج حياة كامل، يدعو إلى سلام داخلي عميق، وإلى رؤية واضحة لمجريات الأمور. إنها دعوة للعيش في رحاب الله، معتمداً عليه وحده، فهو سبحانه القادر على كل شيء.
