المشاركات

قصة النبي شعيب وقوة الإيمان في وجه الظلم

نستعرض آية (وإنا لنراك فينا ضعيفًا) ونستلهم منها دروسًا عن الثبات أمام التحديات وقوة الحق الباقية.

 


تتوقف الكلمات أحيانًا، تحمل معها قصصًا عميقة ومعانٍ كثيرة. آية من كتاب الله، كلماتها تحكي صراعًا قديمًا، حوارًا يكشف طبائع النفوس. "وَإِنَّا لَنَرَىٰكَ فِينَا ضَعِيفًۭا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَٰكَ" (هود: 91). عبارة قاسية، قالها أهل مدين لنبيهم شعيب عليه السلام. هذه الجملة، بوضوحها وشدتها، تفتح أبوابًا لفهم أبعاد متعددة: عن القوة الظاهرية والحقيقة، عن ثبات المبادئ، وعن مجتمعٍ يرى الأمور بمقاييس مادية بحتة.

من هم أهل مدين؟ ولمَ قالوا هذا؟

أهل مدين، قوم سكنوا منطقة تقع شمال غرب شبه الجزيرة العربية، قرب خليج العقبة. تاريخهم مليء بتصرفات تدل على الفساد، فهم كانوا يطففون الكيل والميزان، يبخسون الناس أشياءهم، وينشرون الفساد في الأرض. كان نبيهم شعيب، عليه السلام، يدعوهم لعبادة الله وحده، ويطلب منهم العدل في المعاملات، يذكرهم بأن الله يراهم ويحاسبهم. لكنهم، مثل الكثيرين ممن سبقهم، رفضوا دعوته. لقد رأوا في شعيب شخصًا يفتقر إلى المال الوفير، وليس له سند عشائري قوي مثل كبار قومهم الذين اعتادوا السيطرة.

كلمتهم "ضعيفًا" لم تعنِ بالضرورة ضعفًا جسديًا. بل كانت تعبيرًا عن افتقاره لما يرون أنه مصدر قوة حقيقي: السلطة، والثروة، وكثرة الأتباع من علية القوم. كانوا يقيسون الرجال بمقدار نفوذهم وممتلكاتهم. (تصور معي تلك النظرة الاحتقارية، كيف أنها تخطئ الهدف دائمًا). وهذا ما جعلهم يستصغرون شأنه، ويظنون أنهم قادرون على الإفلات من عقاب الله بسبب مكانتهم الظاهرية.

فهم "الضعف" و"القوة" في ميزانهم

القوة الحقيقية، في عيون أهل مدين، كانت تكمن في الجاه والمكانة الاجتماعية. كانوا يرون أن كثرة الأبناء، والمال الوفير، والتحالفات القبلية الصلبة، هي ما يمنح الإنسان حصانة من أي أذى. لذلك، حينما وقف شعيب عليه السلام يدعوهم، بلا مال يجمع، ولا حشود تتبعه سوى القلة المؤمنة، بدا لهم "ضعيفًا". لكن الكلمات التي تلتها، "وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَٰكَ"، تكشف جانبًا آخر من الحقيقة. هم يعترفون ضمنًا بأن هناك قوة تمنعهم من إيذائه، وهي قوة عشيرته. هذه العشيرة، أو "الرهط"، لم تكن بالضرورة مؤمنة بدعوته، لكنها كانت تلتزم بتقاليد حماية أفرادها، بغض النظر عن عقائدهم. إنه نظام اجتماعي قديم، يحفظ تماسك القبائل.

وهنا يظهر التناقض: كيف يصفونه بالضعيف، وفي الوقت نفسه يقرون بأن عشيرته هي ما يمنعهم من أذيته؟ هذا يعكس فكرًا يرى القوة في المظاهر، في العدد والعدة، لا في عمق الإيمان وصلابة الموقف. شعيب عليه السلام كان قويًا بإيمانه، قويًا بصلته بربه، قويًا بوضوح حجته، وهذا ما لم يرَه أهل مدين بأعينهم المادية.

دروس من التحدي والرفض

قصة شعيب مع أهل مدين تحمل دروسًا باقية لنا اليوم. أولها، ثبات الأنبياء في وجه السخرية والرفض. شعيب لم يتراجع عن دعوته، لم يلين موقفه رغم التهديد العلني بالرجم. هذا الثبات هو قوة لا تهتز، لا تعتمد على دعم البشر، بل على يقين راسخ بالله. (وهذا ما نتمناه لأنفسنا في وجه تحديات الحياة).

ثانيًا، أن الغرور الذي يصاحب القوة المادية كثيرًا ما يعمي البصيرة عن الحق. أهل مدين، لثقتهم بقوتهم الاقتصادية والاجتماعية، لم يتمكنوا من رؤية نور الرسالة التي جاء بها شعيب. ظنوا أنهم أصحاب النفوذ والسلطة، وأن صوتهم هو الأعلى. لقد رأوا أن "الضعف" سببًا كافيًا لرفض الحقيقة، وهذا وهم خطير.

ثالثًا، قيمة حماية المجتمع لأفراده، حتى في مواجهة الاختلاف. دور العشيرة في حماية شعيب يذكرنا بأن الروابط الاجتماعية، حتى وإن لم تكن دينية بحتة، يمكن أن تلعب دورًا في حفظ الأمن ومنع الظلم. ومع ذلك، تبقى الحماية الإلهية هي الأسمى والأبقى، وهو ما أظهره مصير أهل مدين لاحقًا.

القوة الحقيقية: رؤية مختلفة

فكر قليلًا: من الذي كان حقًا قويًا في هذه القصة؟ هل هم أهل مدين الذين أهلكوا، أم شعيب عليه السلام الذي خلّد الله ذكره في القرآن؟ القوة الحقيقية ليست في العضلات المفتولة، ولا في خزائن الذهب، ولا في كثرة الأنصار الظاهرين. إنها قوة الإيمان بالله، والتحلي بالصبر، والقدرة على الوقوف ثابتًا على الحق مهما كانت التحديات. (هذه قناعتي الراسخة).

شعيب كان يحمل رسالة عظيمة، رسالة إصلاح مجتمع بأكمله. هذه الرسالة، وهذا اليقين بصدقها، منحه قوة لم يتمكن أهل مدين من رؤيتها أو فهمها. لقد كانت قوته تتدفق من مصدر لا يراه إلا أصحاب البصائر. تلك القوة هي التي سمحت له بمواجهة أمة كاملة رغم استصغارهم له.

تأملات للحاضر

هذه الآية القديمة ليست مجرد قصة من الماضي. هي مرآة تعكس واقعًا نعيشه اليوم. كم مرة نرى الناس يحكمون على الآخرين بناءً على مظهرهم، أو وضعهم الاجتماعي، أو مقدار ثروتهم؟ كم مرة يُنظر إلى الدعاة إلى الخير، أو أصحاب المبادئ، على أنهم "ضعفاء" لأنهم لا يملكون أسباب القوة الدنيوية؟

الدرس هنا أن نغير مقاييسنا. أن لا ننخدع بالقوة الظاهرة التي قد تكون سرابًا. القوة الحقيقية هي في سلامة القلب، في صدق النية، في الصمود على المبادئ، وفي القدرة على ترك أثر طيب في العالم. هذا هو الإرث الذي يبقى، وهذا ما يعكس نور الإيمان في وجه ظلام المادية.

الآية تدعونا للتفكير: هل نحن ننظر بعيون أهل مدين، فنحتقر من يبدو لنا "ضعيفًا" ولا نرى ما وراء مظهره؟ أم أننا ننظر بعين البصيرة، فنرى القوة الكامنة في الإيمان، وفي الكلمة الطيبة، وفي الفعل الصادق، حتى لو كان صاحبه يبدو وحيدًا أو بلا سند عشائري قوي؟ الإجابة على هذا السؤال تحدد الكثير عن نظرتنا للحياة وللناس.

إن قصة شعيب تظل منارًا يضيء طريق كل من يسعى للحق، لتذكره بأن القوة ليست دائمًا فيما يراه الناس، بل فيما يعلمه الله، وفيما يثبّت القلوب على نهج الخير والصلاح. وتلك هي القوة التي لا تتزعزع.

إرسال تعليق