"وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَٰدِلُ فِى ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍۢ وَلَا هُدًۭى وَلَا كِتَٰبٍۢ مُّنِيرٍۢ": تأملات في ضوء آية
تلكَ الآيةُ، من سورة الحج، تحملُ في طياتها حكمةً عميقةً، وتحذيرًا واضحًا. وهيَ تصفُ نوعًا من البشر يقعُ في جدالٍ حولَ الله — سبحانه — دونَ أدنى أساسٍ. لكن، ما معنى هذا؟ وماذا يخبئُ لنا هذا الوصف؟ نحنُ نرى كثيرًا حولنا من يتكلمُ في قضايا كبرى، يرمي بالكلماتِ، يصدرُ الأحكامَ، وقد لا يملكُ من الأمرِ إلا قشورًا. وهذهِ الآيةُ بالذاتِ (أُعيدُ وأؤكد: هذهِ الآيةُ بالذاتِ) تضعُ يدها على جوهرِ المشكلة.
"بِغَيْرِ عِلْمٍۢ": الفراغ المعرفي
نبدأُ الجزء الأول: "بغيرِ علمٍ". العلمُ هنا ليسَ مجردَ حفظِ معلوماتٍ، بل هوَ فهمٌ عميقٌ، بصيرةٌ نافذةٌ. إنهُ الوعيُ الذي يقودُ إلى يقينٍ، أو على الأقلِ إلى طريقةٍ منهجيةٍ للتفكيرِ. عندما يجادلُ أحدهم بغيرِ علمٍ، فإنهُ كمن يبني بيتًا على رمالٍ متحركةٍ (أيُ أساسٍ لذلك؟). النقاشُ يصيرُ عقيمًا، خاليًا من أي فائدةٍ. بل قد يقودُ إلى الضياعِ. تخيلْ طبيبًا يصفُ دواءً لمريضٍ دونَ تشخيصٍ، أو مهندسًا يصممُ جسرًا بلا حساباتٍ دقيقةٍ. هذهِ عواقبُ وخيمةٌ. وفي أمورِ الدينِ والإيمانِ، الأمرُ أعظمُ، فالمسائلُ ليستْ بالهينةِ. الإنسانُ يميلُ أحيانًا إلى أن يكونَ "خبيرًا" في كل شيءٍ، حتى لو لم يقرأ صفحةً واحدةً في الموضوع. وهذا ليسَ حديثًا، بل هوَ موجودٌ منذُ أزمانٍ بعيدةٍ.
"وَلَا هُدًۭى": فقدان الدليل الواضح
والجزءُ الثاني: "ولا هدىً". الهدى نورٌ، إرشادٌ، طريقٌ واضحٌ. إنهُ التوجيهُ الصحيحُ الذي يأتي من مصدرٍ موثوقٍ، من اللهِ، أو من رسلهِ الكرامِ. إذا جادلتَ بغيرِ علمٍ، وكنتَ أيضًا بلا هدىً، فكيفَ لكَ أن تصلَ إلى حقيقةٍ؟ الهدى يسبقُ المعرفةَ الصحيحةَ أحيانًا، ويكونُ مصاحبًا لها غالبًا. هوَ البوصلةُ التي توجهُ السفينةَ وسطَ الأمواجِ المتلاطمةِ (لا يمكنكَ أن تبحرَ بلا بوصلةٍ). كثيرٌ من الناسِ لديهم عقولٌ ذكيةٌ، لكن بلا هدىً يمكنُ أن تضلَ تلكَ العقولُ الطريقَ. قد تجدهمُ يجادلونَ لساعاتٍ، يطرحونَ أسئلةً معقدةً، لكن بدونِ مرجعيةٍ صحيحةٍ، بدونِ ضوءٍ يقودُهم، تبقى دوائرهم المعرفيةُ مغلقةً، أو تائهةً في فضاءٍ بلا حدودٍ. (أنا أرى هذا يحدثُ باستمرارٍ).
"وَلَا كِتَٰبٍۢ مُّنِيرٍۢ": غياب النور الإلهي
أما الجزءُ الثالثُ: "ولا كتابٍ منيرٍ". الكتابُ المنيرُ هوَ الوحيُ الإلهيُ، القرآنُ الكريمُ، الذي أنزلهُ اللهُ ليضيءَ دروبَ البشرِ. إنهُ مصدرُ الحقيقةِ المطلقةِ، وهوَ المصباحُ الذي يبددُ ظلماتِ الشكِ والجهلِ. عندما يجادلُ المرءُ في أمورِ الدينِ بلا مرجعٍ سماويٍ واضحٍ، فإنهُ يعتمدُ فقط على ظنهِ، أو على أهوائهِ، أو على ما سمعهُ من هنا وهناك. وهذا خطرٌ كبيرٌ. الكتابُ المنيرُ يقدمُ لنا إجاباتٍ شافيةً، وقواعدَ ثابتةً. إنهُ كخريطةٍ مفصلةٍ، تريكَ كلَ منعطفٍ، وكلَ معلمٍ. من يجادلُ دونَ هذا الكتابِ، كمن يحاولُ أن يفكَ شفرةً معقدةً بلا دليلٍ، بلا مفتاحٍ. هل ينجحُ في ذلكَ؟ غالبًا لا، بل تزدادُ الأمورُ تعقيدًا. هذا الكتابُ، كلامُ اللهِ، يحملُ في طياته نورًا لكل سؤالٍ، لكل حيرةٍ. هوَ مرجعنا الأولُ والأخيرُ.
أسباب الجدال بغير علم
لماذا يقعُ البعضُ في هذا؟ هناكَ أسبابٌ عديدةٌ. ربما يكونُ الكبرُ، حبُ الظهورِ، أو مجردُ الرغبةِ في مخالفةِ الرأيِ الآخرِ. قد يكونُ من نقصِ التواضعِ أمامَ الحقيقةِ. أو ربما من التسليمِ للأهواءِ، حينَ يغلبُ الهوى على طلبِ الحقِ. وبعضُ الناسِ يرى الجدالَ مجردَ لعبةٍ لفظيةٍ، يريدُ أن يربحَها بأي ثمنٍ، حتى لو كانَ الثمنُ هوَ إضاعةَ الحقيقةِ. وهذا النوعُ من الجدالِ يولدُ الشقاقَ والعداوةَ، ولا يضيفُ شيئًا إلى الفهمِ. نحنُ نرى هذا في المناقشاتِ اليوميةِ، وفي وسائلِ التواصلِ. شخصٌ ما يقرأُ عنوانًا، ثم يبدأُ في التعليقِ والاعتراضِ، وهوَ لم يقرأْ حتى المحتوى. هذا يذكرني بالضبطِ بحالِ من يجادلُ بغيرِ علمٍ، أو هدىً، أو كتابٍ منيرٍ.
الطريقُ إلى النورِ
إذا كانَ هذا هوَ الوصفَ، فما هوَ الطريقُ البديلُ؟ الطريقُ يبدأُ بطلبِ العلمِ الحقيقيِ. علمٌ مستندٌ إلى مصادرَ موثوقةٍ، من أهلِ العلمِ الراسخينَ. ثم يأتي بعدَ ذلكَ التسليمُ للهدى الإلهيِ، والبحثُ عن الدليلِ، لا عن مجردِ الرأيِ. والأهمُ من كلِ ذلكَ، هوَ الاعتصامُ بالكتابِ المنيرِ، بفهمهِ، وتدبرهِ، والعملِ بهِ. أن تكونَ مستعدًا لتركِ رأيكَ إذا تعارضَ معَ الحقِ، هذهِ شجاعةٌ، وهذهِ هيَ سمةُ طالبِ الحقيقةِ. (إنها ليستْ بالشيءِ السهلِ، لكنها تستحقُ العناءَ). نحنُ نحتاجُ إلى التوقفِ قليلًا، والتفكيرِ في الكلماتِ قبلَ أن نطلقَها. هذا هوَ جوهرُ الفهمِ السليمِ، وهذا هوَ ما يدعونا إليهِ القرآنُ الكريمُ.
المسؤوليةُ عظيمةٌ حينَ نتحدثُ عن اللهِ ودينهِ. يجبُ أن تكونَ كلماتنا موزونةً، وأن تكونَ قلوبنا مستنيرةً. وأن نكونَ على بينةٍ بما نقولُ، وأن نتبعَ النورَ، لا الظلامَ. والآيةُ تظلُ صرخةً لنا، تذكرنا بأن نكونَ دومًا من أهلِ العلمِ والهدى والكتابِ المنيرِ، لا من أولئكَ الذينَ يجادلونَ بغيرِ شيءٍ من ذلكَ.
نحنُ نرى أنفسنا، نرى مجتمعاتنا. هل نقعُ في هذا الخطأ؟ هل نجادلُ أحيانًا لمجردِ الجدالِ؟ السؤالُ ليسَ مجردَ سؤالٍ، بل هوَ دعوةٌ صادقةٌ للمراجعةِ، وللتدبرِ. لأنَ الحقائقَ، إذا ما أُسيءَ فهمُها أو تناولُها، قد تضيعُ، وقد تضلُ معها قلوبٌ كثيرةٌ (وهذا مؤلمٌ حقًا). فليكنْ سعينا الدائمُ نحو النورِ، نحو المعرفةِ الصادقةِ، نحو الهدى الواضحِ، ونحو الكتابِ الذي لا يأتيهِ الباطلُ من بينِ يديهِ ولا من خلفهِ.
