الغفلة عن ذكر الرحمن: رفيق السوء وقصص النجاة

ماذا يحدث حين تغفل عن ذكر الله؟ نستعرض في هذا المقال آية قرآنية عظيمة وكيف يصبح الشيطان رفيقاً، مع نصائح عملية للعودة للطريق الصحيح.

 

صورة تجسد التحذير القرآني من الغفلة عن ذكر الله ورفقة القرين الشيطاني

صوت الآية الكريمة يتردد في أعماق النفس، يحمل معه تحذيراً لاذعاً وعميقاً، وكأنه يصف لنا درباً لا نود أن نسلكه أبداً. قال الله تعالى في محكم كتابه: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُۥ شَيْطَٰنًۭا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٌۭ) سورة الزخرف، الآية 36. وهذه الآية ليست مجرد كلمات نقرأها لنتجاوزها، بل هي وصف دقيق لحال كثير من الناس اليوم، ربما حتى ونحن لا ندرك، (وهذا ما يجعلها مؤثرة للغاية). دعونا نتفكر في أبعادها، ونحاول أن نفهم ما تعنيه هذه العلاقة الخطيرة، وكيف يمكن لنا أن نتجنب هذا المصير.

معنى "ذكر الرحمن": ليس مجرد كلمات

الذكر هنا أوسع من مجرد الترديد اللساني، (وهذا مهم جداً أن نستوعبه). هو استحضار دائم لله، لرحمته التي وسعت كل شيء، لقدرته القاهرة، لأوامره ونواهيه في كل تفاصيل حياتنا اليومية. إنه أشبه ببوصلة داخلية في القلب والعقل. حين تعمل هذه البوصلة، توجهنا نحو الخير، وإذا تعطلت أو أهملناها، نتيه في دروب متشعبة. هو ليس ترديداً ببغاوياً، بل هو الوعي الذي يبقينا متصلين بالخالق، كضوء يهدي في الظلام، أو مرساة تمسك سفينتنا في بحر متلاطم. هو الشعور بأننا تحت رعاية الله، وأن هناك من يرعانا ويحاسبنا، وهذا يمنح السكينة واليقظة معاً. هذا الذكر يعني أننا نعيش بقيمه، وأننا نضع حساب الآخرة في مقدمة اعتباراتنا.

"يَعْشُ": متى يحدث الانطفاء؟

كلمة (يعش) هنا تحمل معنى الغفلة الكبيرة، ضعف البصر الروحي، أو حتى العمى التام عن الحقيقة الواضحة كوضوح الشمس. إنه ليس عمى مادياً، بل عمى في البصيرة، يجعل الإنسان لا يرى الآيات البينات حوله، ولا يستمع إلى نداء الفطرة. ليس الأمر أننا نختار الشر مباشرة في أغلب الأحوال. أحياناً، نختار الانشغال. نختار صخب الحياة وزينتها الفانية، فننسى هدوء الروح وصفاء القلب. ربما نظن أننا نملك الوقت الكافي، أو أن الأمور ستصلح لاحقاً من تلقاء نفسها. لكن هذا التأجيل والتسويف، وهذه الغفلة عن لحظة الحاضر، هي نفسها بداية الانجراف نحو (العشو) عن الذكر. تخيل شخصاً يسير في طريق مليء باللافتات الواضحة التي تدله على الخطر وتخبره بطريق النجاة، لكنه يتعمد إغلاق عينيه. هذه هي حقيقة (العشو) عن ذكر الرحمن. إنه اختيار واعٍ أو غير واعٍ لتجاهل النور والهداية.

"نُقَيِّضْ لَهُۥ شَيْطَٰنًۭا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٌۭ": رفيق الظل

وهنا تأتي النتيجة. كلمة (نُقيّض) تعني نهيئ ونسخر ونجعل له رفيقاً ملازماً. الأمر ليس عقاباً بقدر ما هو نتيجة طبيعية ومنطقية لفراغ تركه الإنسان بنفسه. حين تتخلى عن حماية الذكر، وحصن الإيمان، يجد الشيطان طريقه إليك، بل ويسكنك. هذا الشيطان ليس بالضرورة كياناً خارجياً يوسوس في كل لحظة، (على الرغم من وجود هذا في الأصل). إنه أيضاً التجسيد لجانبنا السلبي، للأفكار الهدامة التي تأتينا من الداخل، للتردد الذي يشل حركتنا نحو الخير، للرغبات المضطربة التي تأخذنا بعيداً عن الصراط المستقيم. ويصبح هذا الشيطان (قريناً) لصيقاً، لا يفارق صاحبه. يتسلل إلى أفكارنا الخفية، يزين المعصية في أعيننا، ويصعب الطاعة ويجعلها تبدو مستحيلة. (يا له من رفيق سوء، وكم هو مخادع!) أتذكر أياماً كنت فيها غارقاً في هموم الدنيا، أركض خلف الماديات، لا أجد وقتاً لصلاة بقلب خاشع أو لتدبر آية واحدة. حينها، كانت الأفكار السلبية تتوالى، واليأس يحاول أن يتسلل إلى قلبي. هذا هو القرين الذي يتخذ من غفلتنا مدخلاً سهلاً، ومن إهمالنا جسراً يعبر منه إلينا.

كيف يتغلغل القرين؟ تكتيكات خفية

إن تكتيكات القرين بسيطة في جوهرها لكنها فعالة جداً. يجعل المهمة الصغيرة تبدو ضخمة لا يمكن القيام بها. يهمس في آذاننا بأن لدينا وقتاً طويلاً، فلماذا العجلة؟ أو يوسوس بأنك لست جيداً بما يكفي للبدء في عمل صالح، أو أن عملك لن يُقبل. فمثلاً، حين تنوي قراءة صفحة من القرآن الكريم، يقول لك: 'ابدأ غداً، أو اقرأ المزيد لاحقاً.' وهكذا يتراكم الغبار على نوايانا الصالحة، وتفتر همتنا شيئاً فشيئاً. هو لا يأتي بالمنكر الصريح غالباً، بل يجعله يبدو معقولاً، أو صغيراً، أو مؤجلاً. وفي عصرنا هذا، حيث الشاشات اللامعة والمحتوى اللانهائي المتدفق، يجد القرين مساحات واسعة للعمل بحرية أكبر. يجعلنا نضيع الساعات في ما لا ينفع من تصفح أو لهو، ونشعر بضيق الوقت للذكر الخالص أو للقراءة النافعة. إنه يغذي الإدمان على التشتت، ويقنعنا بأن الراحة هي في الهروب من مواجهة النفس والتدبر.

طريق العودة: إشعال شمعة الذكر

الخبر الجيد، والمريح حقاً، هو أن هذه العلاقة مع القرين ليست قدراً محتوماً لا مفر منه. باب العودة مفتوح دائماً، على مصراعيه، للجميع بلا استثناء. والبدء سهل، (أسهل مما تتخيل بكثير). لا تحتاج إلى تغيير جذري بين ليلة وضحاها. ابدأ باليسير، بالمتاح لك. بكلمة (سبحان الله وبحمده) صباحاً ومساءً. بآية تقرأها بتدبر قبل النوم، حتى لو آية واحدة. بصلاة في وقتها، ولو لدقائق قليلة تركز فيها روحك وقلبك. وتذكر أن الاستمرارية خير من الكمية الكبيرة التي تنقطع. ابحث عن صحبة صالحة تعينك على طريق الذكر. فالبيئة المحيطة تلعب دوراً كبيراً في تقوية ذكر الله في قلبك أو إضعافه. أن تكون محاطاً بمن يذكرك بالله، ومن يحفزك على الخير، هذا درع آخر يحميك. تذكر أن الشيطان يفر من القلب الذي يمتلئ بذكر الله، ويتضاءل تأثيره. وهذا ليس مجرد قول ديني، إنه حقيقة نفسية وروحية نلمسها جميعاً حين نُجربها بأنفسنا. إنها أشبه بماء بارد يطفئ نار الوساوس، وبنور يطرد ظلال القرين.

الخاتمة: حماية لا تقدر بثمن

الآية الكريمة تحمل في طياتها تحذيراً صادقاً، لكنها أيضاً دعوة للصحوة والعودة. إنها ترينا النتيجة المحتومة للغفلة والإهمال، وتضع أمامنا البديل الواضح: الذكر، الذي هو الحصن المنيع. تخيل حياتك مع رفيق صالح يرشدك للخير، يشجعك على الطاعة، ويأخذ بيدك نحو النور، بدل رفيق سوء يدفعك للهاوية، ويزين لك الباطل. هذا ما يمنحه ذكر الرحمن. إنه حارس أمين لقلبك وعقلك، وحماية لا تقدر بثمن لروحك. فلنجعل ذكر الرحمن منهج حياتنا اليومي، ليضيء لنا الدروب المعتمة، ويطرد عنا وساوس الظلام، ويملأ نفوسنا باليقين والسكينة. وبذلك نكون في حماية دائمة، (بإذن الله وحده)، ونحقق الفوز في الدنيا والآخرة.

إرسال تعليق