تبدأ حياتنا، على اختلاف أشكالها، بقوة صغيرة. هذه القوة تتجلى في قدرتنا على أن نكون معًا. آية كريمة من كتابنا الحكيم تحمل لنا إرشادًا عميقًا حقًا. تقول الآية بكل وضوح: "وَلَا تَنَٰزَعُوا۟ فَتَفْشَلُوا۟ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ". كلماتها بسيطة جدًا، لكن معناها يمتد لكل جانب من جوانب حياتنا الفردية والجماعية. هي ليست مجرد نصيحة دينية فحسب، بل هي قانون اجتماعي كوني يحدد مسار الأمم والشعوب. التنازع، والخصومة، والاختلاف الذي يتحول لعداوة، كلها عوامل تهدد كيان أي تجمع بشري، سواء كان أسرة صغيرة أو مجتمعًا واسعًا.
النزاع: شرخ في جدار البناء
ما هو النزاع حقًا؟ هو خلاف يتطور، يتفاقم، ليصبح خصومة صريحة. يظهر بين شخصين، أو بين جماعات، وربما حتى بين أمم ذات تاريخ مشترك. تصور جدارًا قويًا، هذا الجدار يقف شامخًا، وكل حجر فيه متماسك مع جاره. لكن إذا ظهر فيه شق، (مجرد شق صغير في البداية)، ألن يضعف هذا الجدار كله شيئًا فشيئًا؟ هذا هو بالضبط النزاع. هو ذلك الشق الذي يبدأ صغيرًا، ثم يكبر بلا رحمة، يهدد البنيان كله. النزاع يستهلك الطاقات، يشتت التركيز، ويجعل الأهداف الكبرى تتوارى خلف معارك جانبية لا طائل منها. التاريخ نفسه، تاريخنا وتاريخ غيرنا، مليء بقصص أمم عظيمة سقطت. سقوطها لم يكن دائمًا بسبب عدو خارجي. لا، في الكثير من الأحيان، كان السبب نزاعًا داخليًا أكل قوتهم من الداخل حتى باتوا هشين، لقمة سائغة لكل من يتربص بهم. هذا ما تفعله الخصومة؛ تفتت الصخر.
الفشل: ثمن الخصومة الباهظ
الآية واضحة في تحديد النتيجة: "فتفشلوا". الفشل هنا ليس مجرد عدم تحقيق هدف أو غاية. إنه انهيار للمسعى كله، انهيار للروح المعنوية، وربما حتى للوجود ذاته. هل رأيت فريقًا رياضيًا يتنازع أعضاؤه على من يسجل الهدف، أو من يقود اللعبة داخل الملعب؟ عادة يخسرون المباراة، حتى لو كانوا يمتلكون أقوى اللاعبين فرديًا. قوة التماسك أهم من قوة الفرد. الفشل يبدأ بخسارة التركيز، كما ذكرنا. الطاقة التي كان يجب أن توجه للعمل الإيجابي، للبناء، للتقدم، تستهلك بكل أسف في الجدل العقيم والصراعات الجانبية التي لا تؤدي لشيء. يصبح الهدف الثانوي هو الانتصار على الآخر، إثبات الذات، لا تحقيق الهدف الأكبر الذي من أجله اجتمعوا في البداية. هذا تغيير في الأولويات، تغيير خطير جدًا. وحينما تتغير الأولويات بهذا الشكل، فإن مسار النجاح ينحرف حتمًا نحو الفشل.
ذهاب الريح: خسارة لا تعوض
الجزء الأعمق في الآية، (وربما الأكثر إيلامًا)، هو قوله تعالى: "وتذهب ريحكم". هذه العبارة عميقة في معناها، أبلغ بكثير من مجرد فقدان القوة البدنية. الريح هنا ليست قوة عضلية. إنها الهيبة، الشجاعة، الإرادة القوية، القدرة على التأثير، روح العزيمة، والاحترام الذي يحظى به المجتمع أو الفرد. عندما تفقد الريح، تفقد البوصلة، وتفقد الشراع الذي يدفع سفينتك للأمام. تصبح سفينة بلا وجهة، تائهة في بحر من الضعف، عرضة لأي تيار أو عاصفة. على المستوى الشخصي، نزاعاتنا تستنزف طاقاتنا الروحية والنفسية. نشعر بالإرهاق، نفقد الثقة في الآخرين، وحتى في أنفسنا. هذا هو ذهاب الريح على نطاق صغير، لكن أثره كبير، يتراكم مع الوقت ليصبح خسارة لا تعوض. الأمة التي تفقد ريحها، تفقد مكانتها بين الأمم، تفقد صوتها، وتفقد قدرتها على صناعة القرار والتأثير في مصيرها.
الوحدة: قوة لا تكسر
الآية الكريمة، بينما تحذر من النزاع، فإنها في جوهرها دعوة للوحدة والتماسك. الوحدة هي السد الذي يحمي من طوفان الفشل ويزيد الريح قوة ودفعًا. تخيل حزمة من الأسهم، سهم واحد يمكن أن ينكسر بسهولة بأيادٍ خبيرة، (هذا أمر طبيعي). لكن حزمة منها، من المستحيل تقريبًا كسرها باليد المجردة. هكذا هي الجماعة المتماسكة، لا تُقهر بسهولة. مجتمع يتفق أفراده على أهداف مشتركة، ويعملون معًا لتحقيقها بروح واحدة، هو مجتمع قادر على تجاوز أي عقبة تواجهه، مهما بدت مستحيلة. هذه الوحدة تولد "الريح" من جديد – قوة دفع هائلة، واحترامًا للذات وللآخرين، وشعورًا بالتفوق المستحق. الوحدة تجعل الأصوات متناغمة، لا متنافرة، وتجعل الأيدي تعمل بانسجام، لا بتضارب.
كيف نحافظ على ريحنا؟
الحفاظ على هذه الوحدة، وبالتالي على "الريح"، يتطلب جهدًا واعيًا ومستمرًا من الجميع:
الاستماع الفعّال:
كثيرًا ما نبدأ بالحديث قبل الاستماع، أو نستمع لنرد لا لنفهم. لكن الحلول الحقيقية تكمن في فهم وجهات نظر الآخرين، حتى لو كانت مختلفة تمامًا عن وجهة نظرنا. الاستماع الصادق يفتح القلوب ويهدئ النفوس، ويضع أساسًا للحوار لا للجدل.
فن التنازل:
ليس كل خلاف يجب أن ينتهي بانتصار طرف على آخر. أحيانًا، التنازل عن جزء من رأينا أو رغبتنا الفردية، من أجل مصلحة أكبر وأشمل للجماعة، هو قمة الحكمة والنضج. إنه ليس ضعفًا، بل قوة حقيقية تظهر القدرة على رؤية الصورة كاملة.
التركيز على المشترك:
مهما اختلفت آراؤنا وتنوعت شخصياتنا، غالبًا ما تجمعنا قيم أساسية وأهداف مشتركة أعمق بكثير. يجب أن نبني على هذا الأساس القوي، أن نسلط الضوء على ما يجمعنا، لا أن نهدمه بخلافات صغيرة قد تبدو كبيرة في لحظة الغضب.
الخاتمة:
الآية الكريمة "وَلَا تَنَٰزَعُوا۟ فَتَفْشَلُوا۟ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ" ليست مجرد تحذير عابر. إنها دعوة قوية للحياة، للحياة بقوة، بكرامة، وبنجاح حقيقي ومستدام. فلتكن وحدتنا هي ريحنا التي تدفعنا نحو العُلا، وتصنع لنا مكانة تليق بنا، كأفراد وكأمة. لنكن يدًا واحدة، وقلبًا واحدًا، حتى لا تفشل مساعينا وتظل ريحنا قوية لا تذهب أبدًا. هذا هو الدرس الخالد الذي يجب أن نستوعبه جميعًا.
