وَلا تَمشِ في الأرضِ مَرَحًا: سرّ التواضع البشري

استكشف معنى آية قرآنية عظيمة عن التواضع وتجنب الكبر. كيف تهذب هذه الكلمات روح الإنسان وتقوّي علاقته بالكون؟

 

شخص يقف متأملًا في صحراء واسعة، رمزًا للتواضع الإنساني أمام عظمة الكون.

القرآن الكريم، كتاب هداية ونور، يضع بين أيدينا كلمات بسيطة تحمل معاني عميقة. واحدة من هذه الآيات الكريمة، التي تلامس القلوب وتُوقظ الفِطَر، هي قوله تعالى: "وَلَا تَمْشِ فِى ٱلْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولًۭا". هذه الآية ليست مجرد نص يُتلى، بل هي دستور حياة؛ دليل للروح، وإشارة للفكر، وحثّ للسلوك الحسن. إنها تُخبرنا عن مكاننا الحقيقي في هذا الوجود الكبير. لكن ما الذي تعنيه هذه الكلمات حقًا لنا اليوم؟

المَرَح: خطى الكِبر على أرضٍ متواضعة

يبدأ الجزء الأول من الآية بنهي واضح: "وَلَا تَمْشِ فِى ٱلْأَرْضِ مَرَحًا". هنا، كلمة "مَرَحًا" تصف نوعًا من المشي ليس فيه سكون ولا خشوع. إنه مشي المختال بنفسه، مشي المتعجرف الذي يرى أنه أعظم من غيره. هذا المشي، بكل ما يحمله من دلالات، هو تجسيد لداء الكبر الذي يصيب القلوب. (وكم رأينا ذلك يتجلى في سلوك الكثير من حولنا).

الأرض التي نمشي عليها، وهي بحد ذاتها معجزة في الخلق، تتحمل خطواتنا بثبات وصبر. لا ترفضنا. ولكن أن نمشي عليها بزهو، كأننا نملكها أو نتحكم فيها، فهذا فهم قاصر. الإنسان، في ضعفه وقوته، مجرد كائن على هذه الكرة الكبيرة. والتباهي، هذا السلوك الذي يُعمي البصر، يجعله ينسى هذه الحقيقة الأساسية.

الكِبر: حاجز بين الإنسان ونفسه

عندما يتملك الكبر نفسًا، فإنه يُقيم حاجزًا سميكًا. يمنعها من رؤية عيوبها، ويحجب عنها فضل الله عليها. هذا الشعور بالعظمة، الذي لا أساس له، يحول بين الشخص وبين فهم الآخرين. ويُبعد الناس عنه. إنها خصلة تُفسد الود وتُقلل البركة في التعاملات.

لن تَخرِقَ الأرض: حجمنا الحقيقي

يأتي الجزء الثاني من الآية ليضع الحقائق أمام أعيننا بلا مواربة: "إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلْأَرْضَ". كلمات قوية ومباشرة. مهلاً، أيها الإنسان، مهما بلغت قوتك، مهما كانت إنجازاتك، لن تستطيع اختراق هذه الأرض بقدميك. لن تشقها بحركة عابرة أو بخطوة قوية. هذه الأرض، التي تبدو صامتة وهادئة، هي كيان عظيم، لها تركيبها، ولها قوانينها التي لا تتغير. ونحن، مهما حاولنا، نبقى صغارًا أمامها.

فكر في الأمر: طبقات الأرض تلك، كيف تشكلت؟ إنها تحمل الجبال والأنهار، وتحفظ أسرار الحياة منذ آلاف السنين. وحجم الإنسان، مع كل قدراته، يظل محدودًا جدًا أمام هذا الكوكب. هذه الحقيقة ليست لتقليل الشأن، بل لتذكيرنا بحدودنا الطبيعية، وبأن هناك قوة أكبر تحكم كل شيء. إنها دعوة للتفكير في عظمة الخالق، وفي تواضع المخلوق.

لن تبلغ الجبال طولاً: أفق التواضع

ثم يختتم الجزء الثالث الآية بصورة بصرية مذهلة: "وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولًۭا". انظر إلى أي جبل شامخ. انظر إلى قممه التي تلامس السحاب. حاول أن تتخيل نفسك تصل إلى طوله. هل يمكنك؟ بالطبع لا. هذه الجبال، التي أرسيت لتمسك الأرض، تقف كشهود على عظمة الكون. وهي تذكرنا بأن هناك ما هو أعلى منا بكثير. ليس فقط في الارتفاع المادي، بل في القدرة والقوة.

(أتذكر مرة وقفت أمام جبلٍ شاهق، شعرت بالصغر والهدوء في آن واحد). إن هذه المشاهد الطبيعية تُرغِم النفس على التأمل. هي تُرغِمها على إدراك صغر حجمها. وهذا الإدراك ليس ضعفًا، بل هو بداية القوة الحقيقية. قوة الاعتراف، وقوة الرضا، وقوة طلب العون من خالق هذا الكون الواسع.

التواضع: جوهر العيش الحكيم

تلك الآية الكريمة، بكلماتها القليلة، ترسم لنا طريقًا واضحًا للعيش. هي تعلمنا أن التواضع ليس فقط صفة حسنة، بل هو ضرورة لحياة سوية. عندما يتواضع الإنسان، تراه أقدر على التعلم، أقدر على الحب، وأقدر على فهم الآخرين. يصبح قلبه مفتوحًا للخير، وعقله مستعدًا لاستقبال الجديد. والتواضع، بالمناسبة، لا يعني الاستسلام أو المهانة؛ إنه قوة داخلية تجعل المرء يعرف قدره، ويحترم غيره، ويعيش بسلام مع نفسه والعالم.

الزهو والتفاخر، في المقابل، يضران بصاحبهما قبل أي أحد آخر. يمنعانه من رؤية النواقص، ويجعلانه مكروهًا في عيون الناس. وهذا، بكل صراحة، ليس طريقًا يستحق أن يسلكه أحد. فما فائدة الوصول إلى القمة إن كنت وحيدًا هناك، أو إن كنت لا ترى سوى نفسك؟

خطوات نحو قلب متواضع

كيف نُطبق هذه النصيحة الإلهية في حياتنا اليومية؟ الأمر بسيط، ولكنه يحتاج إلى ممارسة دائمة:

  1. تذكر المنشأ والنهاية: نحن من تراب، وإلى تراب نعود. هذه حقيقة لا يجب أن تغيب عن بالنا أبدًا.
  2. التأمل في الخلق: انظر إلى السماء، إلى الجبال، إلى البحار. تأمل في عظمة ما حولك. هذا يجعل القلب يلين والعقل يتأمل.
  3. خدمة الآخرين: مد يد العون لمن يحتاج. هذا يُزيل الكبر ويُنمّي روح العطاء.
  4. الاستماع للناس: حاول أن تستمع أكثر مما تتكلم. كل شخص يحمل قصة، ولديه ما يُضيفه إليك.

الآية "وَلَا تَمْشِ فِى ٱلْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولًۭا" هي دعوة صادقة للحياة بقلب نقي، وعقل مستنير، وروح متواضعة. إنها تذكير بأننا جزء من نظام أكبر، وأن قيمتنا الحقيقية تكمن في تواضعنا، لا في غرورنا. فهل نمشي على الأرض بوعي، أم بخطوات غافلة؟ هذا السؤال متروك لنا لنُجيب عليه في كل يوم.

إرسال تعليق