هل سمعت يومًا عن ثقلٍ يسكن الروح؟ (نعم، كلنا نُحس به أحيانًا). ذلك الشعور المُر، كأنه عقدةٌ تُشد في الصدر. إنه الغلّ، يا صديقي. تلك الآفة الخفية التي تأكل من سلامنا، وتُذهب هناءنا. لكن القرآن الكريم، ذلك النور الهادي، يخبرنا عن وعدٍ عظيم، وحالةٍ من الصفاء نرجوها جميعًا. يقول سبحانه في محكم التنزيل: "وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّۢ". آيةٌ قصيرة، لكنها تحمل معاني عميقة، وسبلاً للراحة لا تُقدَّر. لنقف قليلًا، ونتأمل معًا هذا الوعد الإلهي. كيف يمكننا، نحن البشر، أن نعيش بهذا الصفاء؟ وماذا يعني أن "نُنزَع" الغلّ من قلوبنا؟
ما هو الغلّ تحديدًا؟
الغلّ، بالمعنى البسيط، هو شعورٌ خفيٌّ بالعداوة أو الكراهية أو الحسد. إنه ليس مجرد غضبٍ عابر، بل هو ترسبٌ للضغينة. يتراكم ببطء، مثل الصدأ الذي يأكل المعدن. قد يكون من شخصٍ أساء إليك، أو من نجاحٍ رأيته عند غيرك، أو حتى من فهمٍ خاطئٍ لموقفٍ ما. وهذا الشعور يتخفى أحيانًا. قد نظن أننا تجاوزنا الأمر، لكنه يبقى كجمرةٍ تحت الرماد. وما أصعب أن يحمل الإنسان جمرةً كهذه في صدره!
وعلامات الغلّ كثيرة. تراه في نظرة العين، في لهجة الصوت غير الودية. بل حتى في حديث النفس، حين تترقب زلة الآخرين. الغلّ يجعل المرء يرى الخير قليلًا، والشر كثيرًا. يحجب الرؤية الصافية، ويُبعدنا عن طبيعتنا الفطرية التي تميل للحبّ والوئام. هذا الشعور، إنه حقًا عبءٌ ثقيل، يثقل كاهل الروح ويُصعب عليها الطيران.
أثر الغلّ في حياتنا اليومية
الغلّ لا يبقى حبيسًا داخل القلب وحسب. لا، بل يظهر تأثيره على سلوكياتنا. يجعلنا نتجنب بعض الناس. بل وربما يدفعنا لقول كلماتٍ غير لائقة. إنه يُفسد العلاقات. يقطع الروابط القوية. كيف يمكن للمرء أن يبني جسورًا مع الآخرين وقلبه مليءٌ بالأسوار؟ لا يمكن، وهذا واضحٌ للجميع. والأسوأ من ذلك، أن الغلّ يؤثر على صحتنا. يزيد التوتر، يجلب الهمّ، ويُبعد السكينة. وهذا ما أكدته دراساتٌ عديدة (نحن نعرف أن المشاعر تؤثر في الجسد، أليس كذلك؟). القلب المريض بالغلّ، هو قلبٌ يُعاني كثيرًا.
الوعد الإلهي: نزع الغلّ
الآية الكريمة "وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّۢ" تُعطينا أملًا. تُخبرنا أن هناك حالةً من الصفاء التام ممكنة. غالبًا ما تُذكر هذه الآية في سياق أهل الجنة. هناك، في تلك الدار الخالدة، لا غلّ، لا حسد، لا ضغينة. النفوس نقية، والقلوب صافية، والكل يعيش في وئامٍ وسعادةٍ لا تتغير. تخيل ذلك! أن تعيش بلا أي حملٍ داخلي، بلا أي مرارةٍ تجاه أحد. هذا هو أوجُ السلام. وعدٌ من الخالق، أن يزيل كل تلك الأثقال من صدورهم. وهذا النزع، هو فعلٌ إلهي، كاملٌ ودقيق.
لكن هل هذا يعني أننا لا نسعى لنزعه في دنيانا؟ كلا، بالتأكيد لا. بل هو دعوةٌ لنا للعمل. فالجنة ليست مجرد مكان، إنها حالةٌ من الوجود. ونحن مدعوون للسعي نحو تلك الحالة، حتى هنا، على الأرض. النزع الإلهي في الجنة يأتي كمكافأة، لكن السعي لنزع الغلّ في الدنيا هو جزءٌ من عملنا. (وهذا يتطلب جهدًا، أصدقائي).
كيف نَسعى لنزع الغلّ من قلوبنا؟
هذه ليست مهمةً سهلة، لكنها ممكنة. تتطلب وعيًا وجهدًا مستمرًا. هناك خطواتٌ عملية يمكننا اتباعها:
1. الإقرار بالوجود والاعتراف به
أول خطوة هي الاعتراف. يجب أن نُقر بأن الغلّ موجودٌ في قلوبنا. لا ننكره. لا نُغطي عليه. مجرد قول "نعم، أنا أحمل شيئًا من الضغينة" هو بداية الشفاء. وعندما نعترف، يمكننا أن نفهم من أين يأتي هذا الشعور، وما هي جذوره. (نعم، إنه مثل تنظيف الجروح القديمة).
2. التفكير الإيجابي وقوة التسامح
تغيير طريقة تفكيرنا يُحدث فرقًا كبيرًا. عندما يوسوس لنا الشيطان بالحقد، علينا أن نُقابله بالذكر الطيب، وبالتفكير في محاسن الآخرين. والتسامح، هذا المفهوم الجبار، هو مفتاحٌ لقلبٍ نقي. لا يعني التسامح أن ننسى الإساءة. أبدًا. بل يعني أن نتحرر من أسرها. أن نُقرر عدم السماح لتلك الإساءة بأن تُفسد يومنا. إنه تحررٌ لنا، قبل أن يكون للآخرين. العفو يغسل القلب حقًا.
3. الدعاء والالتجاء إلى الله
الله سبحانه هو من يملك القلوب. وهو القادر على "نزع" ما فيها. فلندعو الله بصدق، أن يُطهر قلوبنا من الغلّ والحقد والحسد. "اللهم طهر قلبي من النفاق والغل والحقد والحسد." دعاءٌ بسيط، لكنه يحمل قوةً هائلة. (ونحن نحتاج هذه القوة كثيرًا). الاعتماد على الخالق يُريح النفس.
4. العطاء والإحسان
عندما تُعطي، أو تُحسن إلى من أساء إليك، يتغير شيءٌ ما في داخلك. تتكسر حواجز الكراهية. هذا ليس بالأمر السهل، أبدًا. لكنه من أقوى الأفعال التي تُنير القلب. العمل الصالح يطرد الظلام. وتقديم المساعدة للآخرين يُولد فيك شعورًا بالرضا لا يضاهيه شيء.
ثمار قلبٍ خالٍ من الغلّ
عندما نسعى لنزع الغلّ، فإننا نُمهد الطريق لثمارٍ يانعة في حياتنا. أولًا، السلام الداخلي. ذلك الهدوء الذي لا يزعجه صخب الحياة. ثانيًا، علاقاتٌ أفضل مع من حولنا. الناس يميلون لمن يرى الخير فيهم، ويُحسن الظن بهم. وثالثًا، قربٌ أكبر من الله تعالى. فالقلب النقي أقرب لرحمة ربه. وهذا السعي، إنه طريقٌ للسعادة الحقيقية، تلك التي تنبع من داخلنا، ولا تعتمد على ظروف الخارج. والرضا الذي يُصاحب هذا الصفاء، لا يُقدر بمال.
بناء مجتمع سليم
مجتمعٌ أفراده يسعون لنزع الغلّ من صدورهم، هو مجتمعٌ قويٌ ومتماسك. لا يمزقه الحسد، ولا تُفتته الضغائن. بل يجمعهم الحبّ، ويُعلي راية التعاون. تخيل لو أن كل فردٍ منا بدأ العمل على قلبه. يا له من عالمٍ يمكن أن نعيش فيه! (حلم جميل، أليس كذلك؟). وهذا هو جوهر تعاليم ديننا الحنيف.
خاتمة: دعوة للصفاء
إن آية "وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّۢ" ليست مجرد وعدٍ لأهل الجنة. لا. إنها خارطة طريقٍ لنا، ونحن هنا. دعوةٌ للتأمل، للعمل على قلوبنا. فالقلب السليم هو أساس كل خير. فلنجاهد أنفسنا، ولنسعَ بصدقٍ لتطهير قلوبنا من كل ما يُعكر صفوها. لنُصبح، ولو قليلًا، أقرب لتلك الصورة المضيئة التي وعدنا بها الخالق. ولنتذكر دومًا أن النقاء يبدأ من الداخل. ابدأ اليوم، خطوةً بخطوة، نحو قلبٍ مطمئن، قلبٍ خالٍ من الغلّ.
.jpg)