تلك كلماتٌ تهبط على القلب، لا مجرد حروفٍ تتراص. هي تفتح العيون، تُعيد النظر في معنى كلمة "صديق". وماذا عن يومٍ لا يشبه أي يوم؟ يومٌ يكشف الحقائق كلها، ويزيل كل قناع. آية عظيمة من كتاب الله (سبحانه) تدعونا للتأمل العميق، ليس في الغد البعيد وحسب، بل في يومنا هذا. الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين.
الصداقة: مفهوم يهتز أمام حقيقة الآخرة
نحنُ نعيش حياتنا، نتجمع، نضحك، نبكي مع من حولنا. نبني شبكاتٍ من العلاقات، نسميها صداقات. بعضها قويّ كالجبال، وبعضها خفيف كالهواء. لكن، هل فكرنا يومًا في مصير هذه الروابط عندما يقف كل إنسانٍ وحده، والحسابُ قادم؟ هذه الآية، وبشكل صريح، تقول: معظم هذه الروابط لن تصمد. بل إنها ستتحول إلى عداوة. فماذا يعني ذلك حقًا؟
كلمة "أخلاء" هنا تشير إلى الصداقات القوية، تلك التي فيها خُلَّة ومحبة. هم ليسوا مجرد معارف، بل رفاق درب. لكن حتى هؤلاء، يوم القيامة، لن يبقى منهم إلا القليل. تصور معي المشهد: شخصان كانا يتشاركان كل شيء، الأسرار والأفراح والأتراح. كانا يدعمان بعضهما. ثم يأتي ذلك اليوم، ويتحول أحدهما إلى عدو للآخر، أو كلاهما لبعض. لماذا؟ (وهذا هو السؤال الذي يشغلني دومًا).
السبب بسيط، لكنه مُرّ: المصالح الدنيوية. الأهواء المشتركة التي بنيت عليها الصداقات. قد يكون التوافق في المعاصي، أو في السعي وراء متاع زائل. عندما ينكشف الغطاء، وتتضح حقيقة كل نفس وما قدمت، سيتبرأ كل طرف من الآخر. كلٌ سيلوم صاحبه، سيقول: أنت من جرني، أنت من أغراني. العداوة هنا ليست عن كراهية قديمة، بل عن لوم وحسرة. كلٌ يرى الآخر سببًا لبُعده عن النجاة. هذا مؤلم، أليس كذلك؟ أن يصبح أقرب الناس إليك خصمك اللدود.
المتقون: الاستثناء الوحيد
لكن الآية تقدم استثناءً لامعًا، كضوء في ليل بهيم: "إِلَّا ٱلْمُتَّقِينَ". هؤلاء هم الذين ينجون من هذا المصير المرير. ما الذي يجعلهم مختلفين؟ وما هي الصداقات التي تستمر، بل وتزداد قوة في ذلك اليوم العصيب؟
المتقون، هم من جعلوا الله (جل وعلا) نصب أعينهم في كل عمل. في صداقاتهم، كانت هناك غاية أسمى من مجرد المتعة أو المصلحة الشخصية. كانت صداقتهم مبنية على الحب في الله، على التواصي بالحق، والتناصح بالخير. إنهم يذكرون بعضهم بالصلاة، يحثون على عمل الخير، ينهون عن المنكر. لا يغشون، لا يخادعون، لا يجرون بعضهم إلى الشر. كانت صلتهم بالله أقوى من أي صلة أرضية.
هذا النوع من الصداقة يشبه الشجرة الطيبة، جذورها عميقة في الإيمان، وفروعها تمتد لتعطي ثمرًا نافعًا. (أنا دائمًا أفكر في هذا الوصف). عندما يأتي يوم القيامة، لا يكون بينهم لوم أو ندم. بل على العكس، يتذكرون أن رفيقهم كان يشد أزرهم على الطاعة، كان يذكرهم بالآخرة. كلٌ منهم يشفع للآخر، ويدعو له، وتكون صداقتهم شفيعة لهم.
صفات الصديق المتقي: رفيق درب للجنة
كيف نميز هؤلاء الأصدقاء؟ وما هي السمات التي تصنع صداقة تدوم حتى في أصعب الظروف؟
- يذكرك بالله: هذا هو المقياس الأول. لا يصحبك إلا إلى ما يرضي الله. كلماته، أفعاله، كلها تذكير بالآخرة.
- ينصحك بصدق: لا يخشى أن يقول لك الحقيقة، حتى لو كانت مرة، إذا رأى فيها صلاحك. نصيحته ليست فضيحة، بل محبة.
- يدعو لك بظهر الغيب: يهتم لأمرك في غيابك، ويطلب لك الخير من الله. وهذا أجمل ما في الصداقة الصادقة، أن يكون أحدهم سراجًا للآخر في الظلام.
- يعينك على الطاعة: تجده عونًا لك على الصلاة، على الصيام، على كل عمل صالح. يشاركك الخير، ويشجعك عليه.
- يثبتك عند الشدائد: عندما تضيق عليك الدنيا، وتتخلى عنك كل الوجوه، تجده ثابتًا، يشد من أزرك، ويذكرك بالصبر والاحتساب.
تلك هي الصداقة التي لا تتبدل، ولا تذهب أدراج الرياح. إنها ليست صداقة مبنية على المصالح، أو على اللغو والثرثرة فقط. بل هي شراكة في بناء الآخرة، وهذا هو ما يجعلها تستمر.
دروسٌ لحياتنا اليومية
ماذا نتعلم من هذه الآية العظيمة لحياتنا الآن؟ (هذا هو الجزء العملي، والذي يجب أن نتوقف عنده).
- اختيار الصاحب: كن دقيقًا في اختيار أصدقائك. انظر إلى أخلاقهم، إلى ما يدعونك إليه. هل قربهم يجعلك أقرب إلى الله أم أبعد؟ هذا ليس حكمًا على الآخرين، بل حماية لنفسك.
- تصحيح المسار: إذا كانت لديك صداقات قائمة على ما لا يرضي الله، فكر كيف يمكنك تغيير مسارها. ادعُ أصدقاءك إلى الخير بالحكمة والموعظة الحسنة. لا تقطع روابطك بسهولة، بل حاول إصلاحها.
- كن أنت الصديق المتقي: ابدأ بنفسك. كن أنت الصديق الذي يرجوه الآخرون. كن ناصحًا، معينًا على الخير، ذاكرًا لله.
- لا تخدع نفسك: الصداقة التي لا تقوم على أساس سليم، هي كبيت بني على الرمال. سيأتي يوم، ويقع. كن واقعيًا.
الحياة قصيرة، والعلاقات فيها كثيرة. لكن القليل منها يبقى. الصداقة الحقيقية، تلك التي تُرضي الله، هي كنزٌ لا يفنى. هي استثمارٌ لأجل غير مسمى، ثمرته تظهر في الدنيا، وتكتمل في الآخرة.
وفي النهاية، تذكروا دائمًا أن هذه الآية ليست للتهديد فحسب، بل هي دعوة. دعوة لإعادة تقييم علاقاتنا، لنسعى لأصدقاء يساندوننا في دروب الخير، ولنكون نحن هؤلاء الأصدقاء. (الأمر كله يتلخص في هذا). يوم القيامة، حين يسعى كل إنسانٍ لنفسه، ستجد المتقين يتمسكون بأيدي بعضهم، لا خوفًا من بعض، بل حبًا وتذكيرًا بمسيرة طيبة جمعتهم. هذا هو الفوز المبين. هذا هو العزاء.
