هي آية كريمة، كلماتها قصيرة، لكنها تحمل في طياتها حكمة عميقة، مرآة تعكس أصدق الصور عن طبيعة الإنسان. "مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّۢ مَّسَّهُۥ". تأمل هذا، كيف يمكن للمرء أن ينسى؟
تلامس هذه الآية شعورًا نعرفه جميعًا، شيئًا خفيًا يسكن أرواحنا. والقرآن ليس مجرد نصوص تُتلى، بل هو هداية، ومُنبّه، ومُذكّر بما هو كامن في دواخلنا. تدعونا هذه الكلمات كي نتوقف لحظة، وننظر إلى أنفسنا حين تشتد الكربات، وحين تتلاشى، ونرى كيف تتغير أفعالنا، وحتى قلوبنا.
الضيق: النداء الأول والأكثر إلحاحًا
الضيق، ذلك الشعور الذي يثقل الصدر، يجعل الأنفاس ثقيلة، وكأن الهواء نفسه يضيق. لحظات تمر على المرء، يشعر فيها بالوحدة، لا يجد مفرًا، وكأن الدنيا كلها أُغلقت في وجهه. قد يكون مرضًا مفاجئًا، أو خسارة موجعة، ربما أزمة خانقة تضغط على الأيام. في تلك اللحظات، يرتفع الصوت. لا صوت للتكبر أو التجمل، بل صوت حقيقي، مبحوح، نابع من أعماق الروح. يتجه الإنسان إلى خالقه، يرفع كفيه، يطلب العون بإلحاح، بدعاء لا يمل، تتردد الكلمات بصدق لم تعرفه النفس من قبل. تلك هي لحظة الضعف البشري المطلق، حيث يسقط كل قناع، ولا يبقى سوى العبد وربه. (أمر عجيب، أليس كذلك؟).
ندعو الله أن يرفع عنا الألم، أن يزيح الغم، أن يعيد السكينة لأرواحنا. نَعِدُ أنفسنا، وربما نَعِدُ ربنا، أننا سنظل على العهد، سنكون شاكرين، ذاكرين، ممتنين. هذا النداء، يظل يتردد، يملأ الزوايا، حتى يكاد يصبح جزءًا من كياننا. إنه نداء خالص، لا يشوبه شك، لأنه نابع من حاجة ماسة، من ألم حقيقي، من خوف يدق أوتار القلب.
زوال البلاء: وكأن شيئًا لم يكن
ثم، وكما هي سنة الحياة، يأتي الفرج. كأن غيمة سوداء ثقيلة مرت وانجلت، وظهرت الشمس من جديد. يزول الضر، تخف الأوجاع، تعود الأمور إلى نصابها، وربما أفضل مما كانت. هنا تكمن المفارقة العظمى التي تشير إليها الآية. تتلاشى الذاكرة شيئًا فشيئًا. يمر الوقت، وتصبح تلك الشدة مجرد ذكرى بعيدة، خيط رفيع يكاد يختفي. الشخص الذي كان يدعو ويناجي، هو نفسه الذي يمضي وكأن الضر ما كان، وكأن دعاءه الملّح لم يُرفع قط. أحيانًا، ما ننسى حتى تفاصيل الوجع، أو حتى ننسى أننا كنا في ضيق أصلاً، وكأن كل ما حدث كان حلمًا عابرًا.
إنها دورة عجيبة، من الإلحاح الشديد في طلب العون، إلى النسيان التام بمجرد زوال السبب. هذا التحول السريع، يكشف عن جانب من جوانب النفس البشرية، جانب يحتاج منا إلى فهم، ومن ثم، إلى عمل دائم. الإنسان بطبعه يميل إلى الراحة، إلى تجاوز الألم. ولكن هذا التجاوز، إن لم يكن مصحوبًا بوعي وامتنان، يصبح نسيانًا يجرد التجربة من قيمتها الكبرى.
لماذا ننسى؟ دوافع وراء سلوك بشري متكرر
لماذا ننسى بهذه السرعة؟ لماذا يتلاشى ذلك الشعور العميق بالضعف والتوكل؟ هناك أسباب عدة لهذه الطبيعة البشرية. أولاً، النفس تميل إلى الهروب من الألم. الذكريات المؤلمة، حتى وإن حملت دروسًا، قد تُدفن في أعماق الوعي كآلية دفاعية. تريد النفس أن تتجاوز، أن تستعيد طاقتها، فتُلقي بثقل الماضي خلفها.
ثانيًا، الانشغال بالجديد. بمجرد أن يزول الضيق، تعود عجلة الحياة لتدور بانتظامها المعهود. تتجدد المطالب، تتكاثر المهام، وننشغل بزحمة الأيام وتفاصيلها. يطغى الحاضر والمستقبل على الماضي، وتصبح تلك التجربة مجرد صفحة مطوية في كتاب العمر، لا نعود لفتحها إلا نادرًا، إن عدنا.
ثالثًا، قلة التأمل والتدبر. كثير منا يعيش يومه دون توقف حقيقي للنظر في الأحداث، لاستخلاص العبر. نحن نعيش الحياة، ولا نعيش مع الحياة. نفتقد تلك اللحظات التي نجلس فيها مع أنفسنا، نتفكر في النعم بعد الشدائد، في كيف أُنقذنا، وفي يد العون التي امتدت إلينا من حيث لا نحتسب. إن غياب هذا التأمل يجعل التجربة تمر دون أن تترك أثرها العميق المطلوب.
دروس وعبر: كيف نحافظ على الذكر والامتنان
الآية لا تُشير إلى عيب في الإنسان وحسب، بل هي دعوة للتصحيح، للارتقاء بالنفس. كيف نحفظ في قلوبنا وعقولنا ذلك الشعور بالتوكل والامتنان، حتى بعد زوال الشدة؟
- التذكر الواعي: اجعل من تذكر النعم بعد الشدائد عادة يومية. لحظة هدوء قبل النوم، أو بعد الصلاة، لتتذكر فيها كيف أنجاك الله من ضيق ما، أو كيف أنعم عليك بعد حرمان. هذا ليس تذكرًا سطحيًا، بل شعورًا عميقًا بالامتنان يلامس الروح. اكتب، إن شئت، في مفكرة صغيرة، لحظات الفرج التي مرت بك.
- الشكر المستمر: الامتنان ليس عاطفة عابرة، بل هو ممارسة. قل "الحمد لله" ليس بلسانك فحسب، بل بقلبك أيضًا. اشكر الله على كل نعمة، كبيرة وصغيرة، وعلى كل ضيق رفعه عنك. هذه الكلمات، عندما تخرج من عمق اليقين، تبني جدارًا من الشكر يصعب اختراقه بالنسيان.
- العطاء والمشاركة: حين يتجاوز المرء ضيقًا، ويُمنح فرجًا، فليتذكر من هم في شدة. العطاء يذكرك بنعمة الله عليك، ويجعلك تشعر بقيمة ما لديك. عندما تساعد آخرين، فإنك تدرك حجم العون الذي تلقيته أنت، وهذا يقوي رابط الامتنان لديك.
- تأمل الآيات الكونية والقرآنية: قراءة القرآن بتدبر، والتفكر في آيات الله في الكون وفي أنفسنا، يفتح آفاقًا للفهم. كل آية، كل ظاهرة طبيعية، تذكرنا بعظمة الخالق، وبضعفنا المطلق دونه، وهذا الشعور بالضعف هو أساس التوكل.
في الختام، الآية الكريمة "مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّۢ مَّسَّهُۥ" تحمل لنا رسالة واضحة. إنها ليست مجرد وصف لحال بعض الناس، بل هي دعوة لنا جميعًا لنكون أفضل. لنحيا بوعي أكبر، بقلوب شاكرة لا تنسى، وبأرواح تتذكر أن كل ما نملكه هو من فضل الله. فلنجعل من الشدة درسًا يُتذكر، ومن الفرج مناسبة لشكر لا ينقطع. هذا هو ما يرفعنا، ويجعلنا أكثر قربًا من حقيقة وجودنا، ومن خالقنا.
