وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم: سلطان الإرادة والقرار

تدبر آية (وما كان لي عليكم من سلطان) يكشف سر الإرادة البشرية. اكتشف كيف أن اختياراتنا وحدها تشكل مصيرنا، لا قوة خارجية قاهرة.

 

شخص يتأمل طريقه أو خياراته، رمزًا للإرادة البشرية والمسؤولية عن القرارات.

الآية الكريمة، كأنها همسة في قلب الوعي، تحمل معانٍ عميقة تلامس جوهر وجودنا: "وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَٰنٍ إِلَّآ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى". هذه الكلمات، التي ينطق بها الشيطان نفسه يوم الحساب الأكبر، ليست مجرد اعتراف بالذنب، بل هي إعلان واضح لحقيقة لا يمكن تجاهلها عن طبيعة الاختيار البشري والمسؤولية. إنها تضعنا أمام مرآة النفس، لتأمل كل قرار وكل ميل.

الحوار الأخير: كشف الستار عن الحقيقة

تأتي هذه الآية ضمن سياق قرآني مهيب، في سورة إبراهيم، حين يقف الظالمون أمام ربهم، ويلومون الشياطين التي قادتهم للضلال. هنا، يبرز رد الشيطان، واضحًا ومباشرًا. يقول لهم إنه لم يملك عليهم سلطانًا حقيقيًا. لم يجبر أحدًا على فعل شيء. لم يكن بيده سوط ولا قيد. كان كل ما يملكه هو "دعوة"، مجرد دعوة أو وسوسة. وهذا جوهر الأمر: الإغواء، لا الإجبار.

أتخيل المشهد، صمت يكسوه وجل، ثم تتردد كلمات الشيطان. تبرد الحجج، (كل تلك الأعذار التي اختبأنا خلفها). إنه يلقي بالكرة إلى ملعبنا، ملعب المسؤولية الشخصية. ليس هناك من قوة خارجية يمكنها أن تنتزع منا قرارنا الأخير. هذه حقيقة باردة، لكنها عادلة.

طبيعة السلطان: دعوة لا قسر

السلطان في اللغة يعني القوة والقدرة على السيطرة والتصرف. والآية تنفي هذا السلطان عن الشيطان بشكل مطلق. هو ليس حاكمًا علينا. هو لا يمتلك أزرار التحكم في أفعالنا. دوره ينحصر في بث الأفكار، في تزيين الباطل، في جعل الخيار الخاطئ يبدو مغريًا. إنه يرمي البذور، لكننا نحن من نختار أيها نسقي.

كأن هناك طريقان: طريق الخير وطريق الشر. الشيطان يقف على مفترق الطريق ويشير بإصبعه، يوشوش، يعد بمناظر خلابة في طريق الضلال. لكن من يمشي؟ من يخطو الخطوة الأولى والثانية؟ هذا هو خيارنا. ولذلك، كان رده قاطعًا: "إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي". الاستجابة، هذا هو مربط الفرس. هذا هو فعلنا، فعلنا نحن كبشر، أحرار الإرادة.

سر الاستجابة: لماذا نتبع النداء؟

هنا يكمن السؤال الأعمق: ما الذي يجعلنا نستجيب لدعوة الشيطان؟ ما الذي يدفعنا نحو الهاوية ونحن نرى أحيانًا طريق النجاة واضحًا؟ الأمر يعود إلى النفس البشرية، تلك النفس التي تحمل في طياتها الخير والشر، القوة والضعف.

بعض الأسباب التي تدفعنا للاستجابة قد تكون:

ضعف الإرادة

أحيانًا نكون منهكين، أو مشتتين. قوة إرادتنا تخبو، (مثل مصباح بدأ نوره يخفت). في لحظات الضعف هذه، تصبح دعوة الشيطان أسهل للاستماع إليها. المقاومة تتطلب جهدًا، والاختيار السهل غالبًا ما يكون هو طريق الإغراء. والنفس الأمارة بالسوء، كثيرًا ما تكون هي الحصان الجامح الذي يصعب كبحه.

شهوة الدنيا

الإغراءات المادية، حب الظهور، الرغبة في اللذة العاجلة... كلها محركات قوية. الشيطان لا يأتي ليقول لك "اذنب". بل يأتي ليقول "استمتع الآن". يزين لك الممتلكات، يهمس لك بأهمية المكانة، يغريك بالراحة الفورية. وكم مرة، نرى الفخ، لكننا نمد أيدينا نحوه بدافع الطمع.

الغفلة وقلة الوعي

حين نغفل عن الهدف الأسمى لوجودنا، حين ننسى أن الحياة امتحان، تصبح نفوسنا أرضًا خصبة لبذور الشر. قلة التدبر في عواقب الأفعال، وعدم التفكير في يوم الحساب، يجعلنا عرضة لأي دعوة تريحنا من عناء التفكير العميق أو الجهد. (هذا هو الخطر الأكبر، حقًا).

التحدي الكبير: سلطة الاختيار في أيدينا

الآية الكريمة ليست مجرد قصة من قصص الآخرة، بل هي درس حي لحاضرنا. في كل يوم، تواجهنا دعوات شتى. دعوات إلى الكسل، دعوات إلى الغضب، دعوات إلى التنافس غير الشريف. هذه الدعوات قد تأتي من أشخاص، من وسائل إعلام، من أفكار منتشرة. وكأن الشيطان يتجسد في كل صوت يدعونا للابتعاد عن الحق والصواب.

بناء الإرادة الواعية

كيف نصبح أقوى في مواجهة هذه الدعوات؟ الأمر يبدأ بالوعي. أن نعرف أن لنا سلطة. سلطة الرفض. سلطة اختيار الطريق الصعب لكن الصحيح. هذا يعني تدريب النفس على الصبر، على التفكير قبل الفعل. أن نسأل أنفسنا: "هل هذه الاستجابة تعود علي بالخير في الدارين؟"

ولنتذكر أن الشيطان وإن كان عدوًا، فإنه يعطينا درسًا مجانيًا عن قوة إرادتنا. لم يقل "أجبرتكم" بل قال "دعوتكم". وكأنه يقول: انظروا كم أنتم أقوياء، كم أنتم أصحاب قرار.

المسؤولية المطلقة

في النهاية، هذه الآية تضع المسؤولية الكاملة على عاتق الإنسان. لا مجال للوم الآخرين، ولا للتحجج بظروف خارجية قاهرة. نحن من نقرر. نحن من نختار. وهذا ليس عبئًا، بل هو قوة. هي كرامة منحها الله لنا: حرية الاختيار. تلك هي الهدية الكبرى، وبها نُحاسب. فلنمسك بلجام نفوسنا جيدًا، ولنجعل استجاباتنا دومًا لما يرضي خالقنا، لا لما يرضي شيطانًا تبرأ منا في أصعب اللحظات.

لا سلطان له علينا. والسلطان كله، كان ولا يزال، بيدنا. هذا هو وعد الله، وهذا هو جوهر الحساب. فليكن قرارنا، قرارًا يستحق شرف الحرية التي وُهبت لنا.

و"بالله التوفيق"، كما نقول، في كل خطوة نخطوها. هذه رحلتنا، ونحن قادتها.

إرسال تعليق