أكرمكم عند الله أتقاكم: معيار الكرامة الحقيقية

فهم عميق للآية القرآنية "إن أكرمكم عند الله أتقاكم". نكتشف قيمة الإنسان بالتقوى لا بالمظهر، وكيف نصنع التغيير الحقيقي لأنفسنا.

 


إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ

هذه الآية، من سورة الحجرات، ليست مجرد كلمات. لا، إنها قاعدة ذهبية. هي مقياس الله لنا جميعًا (والناس غالبًا ما ينسون هذا). هذه الجملة القصيرة تحمل في طياتها ميزانًا دقيقًا لقيمة الإنسان، تختلف عن أي مقاييس قد يضعها البشر. كثيرون يظنون أن الكرم يأتي بالمال، أو بالنسب، أو ربما بالجاه. لكن الله يقول بوضوح: الأكرم هو الأتقى. الأمر هنا ليس معقدًا.

الكرامة الحقيقية: أبعد من القشور

نحن، البشر، غالبًا ما نقع في فخ المظاهر. نرى شخصًا يرتدي الثياب الفاخرة، يقود سيارة باهظة، أو يأتي من عائلة ذات اسم معروف. ونقول في أنفسنا (بصوت عال أو بصوت خافت): "هذا شخص مهم." نقدّر ما يبدو على السطح، نراه بريقًا يجذب الأعين. لكن هذا مثل كتاب جميل الغلاف؛ قد يكون داخله فارغًا أو سيئ المحتوى. الفروقات بين الناس، في أعيننا، غالبًا ما ترتبط بأشياء خارجية. مال. سلطة. شكل. وهذه كلها زائلة.

الله سبحانه وتعالى، والذي يرى ما في القلوب، والذي يعلم السر وأخفى، يضع معيارًا مختلفًا تمامًا. هذا المعيار ليس له علاقة بلون بشرتك، أو لغتك، أو حجم حسابك البنكي. لا يهتم بمقدار ما تملكه، أو أين ولدت. بل يهتم بما تحمله روحك. بما تسكنه نفسك. بالقوة التي تدفعك لفعل الخير وتجنب الشر.

التقوى: جوهر الكرامة

فما هي هذه التقوى التي يجعلها الله أساسًا للكرامة؟ ليست مجرد أداء للصلوات الخمس أو صيام رمضان (وإن كانت هذه أركانًا لا غنى عنها). التقوى أوسع من ذلك بكثير. هي حالة وعي دائم بالله. هي أن تعيش حياتك وكأنك ترى الله، فإن لم تكن تراه، فهو يراك. (وهذا يدفعك للتفكير في كل خطوة).

التقوى تعني الخوف من الله، ليس خوفًا يجعلك ترتعد، بل خوفًا يدفعك للطاعة والحب. خوف من سخطه، ورجاء في رحمته. هذا الخوف هو ما يدفع الإنسان للعدل، حتى مع من يكره. هو ما يجعله صادقًا، حتى لو كان الكذب أسهل. هو ما يجعله يمد يد المساعدة للفقير، دون انتظار شكر. (تصرفات كهذه تصقل الروح، حقًا). التقوى تجعلك تراقب نفسك دائمًا. تراقب أفكارك. تراقب كلماتك. تراقب أفعالك. هل هي ترضي الله؟ هل هي تخدم الناس؟

التقوى في الحياة اليومية

شخص أتقى الناس قد يكون عامل نظافة بسيط، لكن قلبه مليء بالخير والإخلاص. يخشى الله في عمله، يؤديه بضمير حي. وشخص آخر قد يكون ذا منصب رفيع، لكنه يظلم، أو يغش، أو يتكبر. أيّهما أكرم عند الله؟ الجواب واضح. التقوى هي البوصلة التي توجهك نحو كل ما هو حسن. تجعلك تحافظ على الأمانات، تبر الوالدين، تحسن للجيران، لا تغتاب أحدًا. هذه كلها أجزاء صغيرة من بناء التقوى الكبير.

قصص من التاريخ والإلهام

التاريخ الإسلامي يقدم لنا أمثلة ساطعة. بلال بن رباح، الصحابي الحبشي، كان عبدًا. لكنه بسبب إيمانه وصبره، رفعه الإسلام. أصبح مؤذن الرسول ﷺ. صوته الجميل يتردد في الآفاق. هل كانت عائلته أو ماله هو ما منحه تلك المكانة؟ لا. كانت تقواه. وسلمان الفارسي، الذي قطع المسافات الطويلة باحثًا عن الحق، لم يكن عربيًا. لكن الرسول ﷺ قال عنه: "سلمان منا أهل البيت". هذه كلمة عظيمة. لم يُنظر إلى أصله أو عرقه. فقط إلى قلبه، إلى إخلاصه، إلى سعيه.

نحن اليوم بحاجة ماسة لهذا الفهم. نرى تقسيمات كثيرة، بناءً على العرق، أو الجنسية، أو حتى الطبقة الاجتماعية. (وهذا يجعلني أحزن أحيانًا). لكن الإسلام جاء ليمحو كل هذه الفروقات الباطلة. جاء ليقول إن الجميع سواسية أمام الله، والمعيار الوحيد هو ما في الصدور.

كيف نعيش بالتقوى؟

التقوى ليست هدفًا بعيدًا لا يمكن الوصول إليه. إنها مسار يومي، جهد مستمر.

  1. مراجعة الذات: كل ليلة، اسأل نفسك: ماذا فعلت اليوم؟ هل أرضيت ربي؟ هل ظلمت أحدًا؟ (هذا يساعد كثيرًا على التصحيح).
  2. طلب العلم: اعرف أوامر الله ونواهيه. اقرأ القرآن بتدبر. تعلم من سيرة النبي ﷺ. المعرفة تفتح الأبواب للعمل الصالح.
  3. إخلاص العمل: افعل الخير لوجه الله وحده. لا تبحث عن الثناء من الناس. صدقة السر، صلاة الليل، مساعدة محتاج لا يعرفك؛ هذه كلها تزيد من رصيدك عند الله.
  4. التواضع: لا تتكبر على أحد. تذكر أنك مجرد عبد، وكل ما لديك هو من فضل الله. التواضع يرفعك، بينما الكبر يسقطك. (شيء غريب، أليس كذلك؟)
  5. صحبة الصالحين: اختر أصدقاءك بعناية. الأصدقاء الصالحون يدلونك على الخير، يذكرونك بالله.

ثمار التقوى في الدنيا والآخرة

ثمرات التقوى لا تقتصر على الآخرة فقط. بل تشعر بها في حياتك الدنيا أيضًا. يشعر المتقي بالسكينة في قلبه، والرضا بما قسم الله له. تجد أبواب الرزق تُفتح له من حيث لا يحتسب. "ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب." (آية الطلاق: 2-3). هذا وعد من الله، وهو لا يخلف وعده.

في الآخرة، الجزاء أعظم وأبقى. جنات تجري من تحتها الأنهار. صحبة الأنبياء والصديقين والشهداء. وهذا هو الفوز الحقيقي. ليس فوزًا بكأس أو مال، بل فوزًا أبديًا برضوان الله.

الكلمة الأخيرة

الآية الكريمة "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ" هي دعوة لنا لنعيد ترتيب أولوياتنا. لنتوقف عن الحكم على الناس بما نراه، ولنبدأ في الحكم على أنفسنا بما نخفيه. الكرامة الحقيقية، القيمة الدائمة، ليست في الألقاب ولا في الثروات. بل في صفاء الروح، ونقاء القلب، وصدق العلاقة مع الخالق. فلنسعَ جميعًا لأن نكون من الأتقياء. هذا هو الهدف الذي يستحق أن نعيش من أجله.

إرسال تعليق