تذكرني هذه الآية، كلما مررت بها، بصوتٍ خافتٍ لكنه قوي، يهمس في الضمير. (نعم، هكذا نشعر بها). "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ" (سورة الصف: 2). سؤالٌ مباشر، يقطع كل الأعذار. إنه ليس عتابًا عاديًا، بل هو دعوةٌ عميقةٌ للتأمل في جوهر علاقتنا بأنفسنا، وبكلامنا، وبالعالم من حولنا. هذه الكلمات، بسيطةٌ في تركيبها، لكنها تحمل ثقلاً لا يستهان به في ميزان الأخلاق والسلوك.
نداءٌ من الأعماق: ما وراء الكلمات
الآية الكريمة، من سورة الصف، تخاطب المؤمنين مباشرة. وهذا بحد ذاته يحمل إشارة قوية: الإيمان ليس مجرد ادعاء باللسان. لا، بل هو التزامٌ ينعكس في الأفعال. تاريخ نزول هذه الآية، بحسب بعض الروايات، يرتبط بقومٍ كانوا يتمنون الجهاد بشدة، وحين فُرض عليهم، تراجع بعضهم. (تلك طبيعة بشرية قديمة، أليس كذلك؟) ولكن، المعنى أوسع بكثير من سياقٍ واحد. إنه مبدأٌ خالدٌ يمس كل جانب من حياتنا.
الخلاف بين ما نقول وما نفعل يخلق شرخًا. إنه شرخٌ يبدأ في داخل الفرد، بين ما يؤمن به وما يمارسه. ثم يتسع ليؤثر على مصداقيته أمام الآخرين. وهل هناك شيءٌ أثقل على النفس من فقدان الثقة؟ الإنسان الذي يعد ولا يفي، يتحدث بكلامٍ جميلٍ لا يتبعه عملٌ مطابق، يخسر شيئًا فشيئًا جوهر احترامه لذاته، ثم احترام الناس له. (هذا واقعٌ ملموس، نراه كل يوم).
فنّ الكلام وصدق الأفعال
كل منا يعرف شخصًا يتقن فنّ الكلام. عباراتٌ منمقة، وعودٌ براقة، أحلامٌ وردية. لكن الواقع غالبًا ما يكون مختلفًا. الفارق هنا ليس في المهارة اللغوية، بل في الصدق. في أن يكون ما ينبع من القلب هو نفسه ما يترجمه اللسان، ومن ثم ما يؤكده العمل. هذا هو ما يسمى "التناسق الداخلي". عندما يكون الشخص متسقًا، يشعر بالراحة. يشعر بقوةٍ داخلية لا تهتز.
ولنفكر قليلًا في تأثير ذلك على المجتمع. عندما تكثر الأقوال الفارغة، وتندر الأفعال الجادة، يصيب الناس نوع من اليأس. الثقة تتبدد بين الأفراد، بين القيادات وشعوبها، بين الأصدقاء. يصبح الجو العام مشحونًا بالشك. ولهذا، فإن الآية ليست مجرد نصيحة فردية، بل هي أساسٌ لبناء مجتمعٍ متماسك، أساسه الصدق والشفافية. (أنا أرى أن هذا المبدأ هو صمّام أمان لأي تجمع بشري).
تجليّات التناقض في حياتنا اليومية
أين نرى هذا التناقض؟ إنه يتجلى في صورٍ كثيرة.
- على الصعيد الشخصي: قد نضع أهدافًا عظيمة لأنفسنا: سأقرأ أكثر، سأمارس الرياضة، سأقلل من العادات السيئة. لكن سرعان ما تتلاشى هذه الوعود أمام أول تحدٍّ أو شعورٍ بالكسل. هنا نقول شيئًا، ثم نفعل نقيضه.
- على الصعيد الاجتماعي: ننتقد تصرفاتٍ معينة في الآخرين، بينما نمارسها نحن أنفسنا. ندعو إلى التسامح، لكننا نكون الأسرع في إطلاق الأحكام. ندعو إلى النظافة، لكننا نترك أثرًا خلفنا.
- على الصعيد المهني أو التطوعي: بعض الناس يقدمون وعودًا كبيرة لمشاريع أو مهام، لكنهم لا يلتزمون بها. الكلمات تتطاير في الهواء، بينما تبقى المهام معلقة. هذا يهدم روح الفريق ويُفقد الثقة.
هذا المبدأ القرآني يدعونا إلى مراجعة دائمة لذواتنا. إنه يدفعنا لنتوقف قليلًا ونسأل: هل ما أعلنه للعالم، أو حتى لنفسي، هو ما أنا مستعدٌ لفعله حقًا؟
المصداقية: بناء لا يهتز
المصداقية هي عملةٌ نادرة، تزداد قيمتها مع مرور الزمن. لا تبنى المصداقية بالكلام فقط، بل بالأفعال المتسقة مع هذا الكلام. عندما يرى الناس أن أقوالك تتطابق مع أفعالك، فإنهم يثقون بك. يُصبح صوتك مسموعًا، ورأيك محترمًا. وهذا ينطبق على جميع المستويات: من الفرد إلى القائد، ومن المعلم إلى التلميذ. (إنها حقًا حجر الزاوية في أي علاقة ناجحة).
لكن، الوصول إلى هذا المستوى من الاتساق ليس سهلًا دائمًا. الحياة مليئة بالتحديات، والضعف البشري حاضرٌ دائمًا. هنا يأتي دور الوعي والمحاسبة الذاتية. أن يكون لدينا الشجاعة لنعترف عندما نُخطئ، وأن نسعى لتصحيح المسار. ألا نخشى أن نقول "لا أستطيع" إذا كنا نعلم أننا لن نستطيع الوفاء. هذا أفضل بكثير من أن نقول "نعم" ثم نخلف الوعد.
خطوات نحو الاتساق
كيف يمكننا أن نُقلل الفجوة بين القول والعمل؟
- الصدق مع الذات أولًا: قبل أن نُعلن عن شيء، نسأل أنفسنا بصدق: هل أنا جادٌ في هذا؟ هل لدي القدرة والاستعداد للالتزام به؟
- الواقعية في الوعود: لا نُثقل كاهلنا بوعودٍ أكبر من قدراتنا. الأفضل هو أن نعد بالقليل ونفي به، من أن نعد بالكثير ونُخلفه.
- المحاسبة الدورية: نُراجع أفعالنا بشكلٍ مستمر. هل أفعالي تتوافق مع مبادئي المعلنة؟ (هذا مثل مرآة، تظهر لنا ما نُفضّل ألا نراه أحيانًا).
- الاستعانة بالله: في الإسلام، الإخلاص لله هو المحرك الأساسي. عندما تكون نيتنا صادقة لله، فإن الله يُعيننا على الثبات والوفاء.
- الاعتذار والتعويض: إذا أخطأنا ولم نستطع الوفاء، فمن الشجاعة أن نعترف بذلك ونعتذر، ونحاول التعويض إن أمكن.
الآية الكريمة، "لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ"، ليست فقط نهيًا عن التناقض، بل هي دعوةٌ جليّة لبناء شخصية متكاملة، يُرى فيها الإيمان ليس مجرد شعار، بل سلوكٌ وعمل. إنه مسارٌ نحو السلام الداخلي، وقبول الآخرين، ورضا الخالق. عندما تتوافق أقوالنا مع أفعالنا، نُصبح كالبناء المرصوص، لا تهزه الرياح، ثابتًا وراسخًا. وهذا هو المعنى الحقيقي للقوة.
فلنجعل كلماتنا صادقةً كأفعالنا، ولتكن أفعالنا مرآةً لما نؤمن به. إنها دعوةٌ دائمةٌ للتحقق من الذات، وللسعي نحو الكمال الذي يُمكن أن نبلغه كبشرٍ مؤمنين. (وأظن أن هذا هو الهدف الأسمى لكل منا).
