إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لَا يُؤَخَّرُ ۖ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ". هذه الكلمات، من سورة نوح، ليست مجرد آية نقرأها. إنها دعوة للتوقف. نداء خفيّ يقطع صخب حياتنا اليومية، ويهمس لنا بحقيقة غالباً ما نغفل عنها. تدعونا لنقف لحظة، ربما عند مفترق طرقٍ صغير في يومنا، ونتفكر بعمق في معنى الوقت، ومعنى الوجود نفسه. كثيرون يقرأونها، ويتلونها، ولكن هل نعي حقًا ثقل هذه الكلمات، أو نفهم دلالاتها في رحلتنا هنا؟
ما هو "أجل الله"؟ موعد لا يُخلف
عندما نتحدث عن "أجل الله"، فإننا لا نشير إلى مفهوم واحد فقط. إنه مفهوم واسع، يشمل أوقاتاً كثيرة. أجل الإنسان في هذه الدنيا (وهو الموت)، وأجل الأمم وحضاراتها (الزوال)، بل حتى أجل العالم كله (نهاية الزمان وقيام الساعة). كلها مواعيد. وهذه المواعيد ليست قابلة للتغيير. لا تُقدم ولا تُؤخر.
إنها الحقيقة الثابتة الوحيدة في عالم يتغير بسرعة. نحن نرى حولنا، كل يوم، كيف تتغير الخطط. كيف تتأخر المواعيد. بل كيف تُلغى أشياء كنا نظنها قاطعة. لكن أجل الله؟ لا يتغير. هذا يمنح الكلمات وزنًا خاصًا، ثقلاً يجعل المرء يشعر بمسؤوليته تجاه ما يفعله الآن.
صراعنا مع الزمن: وهم التأجيل
البشر، بطبيعتهم، يحبون التأجيل. "غدًا أفعل كذا". "بعد قليل أنجز هذا". نحن نعيش كأننا نملك رصيدًا لا ينتهي من الأيام والفرص. نبني خططًا كبيرة، أحلامًا تمتد لسنوات طويلة، وكأن الزمن صديق حميم ينتظرنا دائمًا. نضع مهامنا جانبًا، متأكدين من أننا سنعود إليها. ثم، في لحظة ما، يتضح أن هذا الرصيد كان أقل بكثير مما ظننا. (وهذه فكرة تخيفني أحيانًا).
هذا الوهم بأن لدينا متسعًا من الوقت، يجعلنا نضيع فرصًا كثيرة. نؤجل كلمة طيبة، زيارة قريب، توبة صادقة، عمل صالح. نظن أن هناك دائمًا "فرصة أخرى". ولكن الآية تذكرنا بأن هناك موعدًا واحدًا فقط، لا "فرصة أخرى" بعده. هذا الموعد، عندما يأتي، لا يملك أحد القدرة على إيقافه، أو إبطائه، أو حتى منحه دقيقة إضافية. وكأن ساعة الكون تتوقف عند هذا الرقم بالضبط، لا قبل ولا بعد.
حكمة عظيمة وراء الثبات
فلنتوقف قليلًا وننظر: ما الحكمة من أن هذا الأجل لا يتأخر؟ هل هو مجرد اختبار؟ أم هو درس لنا؟ أنا أرى فيه حكمة عميقة. لعلها تدفعنا لكي ندرك قيمة اللحظة الحاضرة. ألا نسرف في الأماني التي لا تتبعها أعمال. لو كان الأجل يتأخر، لربما ازداد الناس استهتارًا، وأجلوا التوبة، وأخروا الأعمال الصالحة إلى ما لا نهاية. ولكن، علمنا بأن هناك موعدًا ثابتًا، يجبرنا (بطريقة أو بأخرى) على التفكير في أفعالنا، وفي مكانتنا. هذا اليقين يزرع في النفس شعورًا بالمسؤولية، ويدفع للجد في الطاعة، والابتعاد عن الغفلة. إنها دعوة صادقة لإعادة ترتيب الأولويات، والتفكر فيما هو باقٍ وفيما هو فانٍ، وفيما ينفعنا حقًا عند لقاء ربنا.
هذه الحقيقة الثابتة هي بمثابة ميزان. تزن أفعالنا، كلماتنا، وحتى نوايانا. إنها تضع قيمة لكل ثانية تمر من عمرنا. وتذكرنا بأن الحياة ليست لعبة بلا قواعد، بل هي سباق له خط نهاية واضح. وبلا تأخير. هذا الفهم، في الواقع، رحمة لنا. تذكير دائم بأن نعيش بحذر، بوعي، وبمسؤولية.
كيف نعيش تحت ظل هذا اليقين؟
الآن، السؤال الكبير: ماذا نفعل إذًا؟ كيف يجب أن تكون حياتنا ونحن نحمل هذا اليقين في قلوبنا؟ الجواب ليس معقدًا، ولكنه يتطلب منا صدقًا مع أنفسنا. ننظر إلى حياتنا. أعمالنا. علاقاتنا مع الخالق ومع الخلق. هل هي أعمال نرضى أن نُحاسب عليها عندما يحين الأجل؟ هل نحن مستعدون لموعدنا الذي لا يقبل التأجيل؟
القرآن يدعونا للتفكر، للتدبر. لا للهلع أو اليأس. بل هو دعوة للعمل. للتوبة الصادقة. لإصلاح ما فسد. لصلة الأرحام. لمساعدة المحتاج. كل عمل طيب نقدمه اليوم هو استثمار حقيقي لأجلنا الذي سيأتي. وكأننا نزرع شجرة، لنأكل ثمرها عندما يحين وقت الحصاد. ولأن وقت الحصاد لا يتأخر، فعلينا أن نزرع اليوم، وليس غدًا.
خاتمة: بوصلة للحياة
إِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ إِذَا جَآءَ لَا يُؤَخَّرُ ۖ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ". هذه الآية ليست مجرد تحذير مخيف. إنها بوصلة للحياة. دليل يرشدنا في كل خطوة. تدفعنا لكي نغتنم كل نفس، كل فرصة، كل لحظة، لأننا لا ندري متى سيُعلن عن موعدنا الشخصي. أو موعد أمة، أو موعد العالم كله. هي تذكير بأن الزمن سلعة ثمينة لا تُعوض. فَلْنُعطِ كل لحظة حقها، ولنعمل بما يرضي الله قبل فوات الأوان. (وأرجو ألا يفوت الأوان أبدًا).
