"إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ": كلمات تُغيرُ القلوب
كم مرة سمعت هذه الآية؟ (كثيرًا، أليس كذلك؟). كلماتٌ قليلة، لكنها تحمل في طياتها كونًا من المعاني، ومبدأً أساسيًا يوجه حياة المسلم. "إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُورًا". هذه الجملة ليست مجرد عبارة تُقال، بل هي ميزان يزن الأفعال، وحجر يُبنى عليه الإخلاص. أتى بها القرآن الكريم في سورة الإنسان، لتُرسخ قاعدة ذهبية للعطاء؛ قاعدة تقول: العطاء الحقيقي لا ينتظر شيئًا مقابل. هو فقط لله، ولله وحده. نرى فيها بوضوح كيف أن العمل الصالح ليس شكلاً فحسب، بل روحًا وغاية. وكم نحتاج اليوم، ونحن نرى زخمًا كبيرًا في الأعمال الخيرية، إلى استحضار هذه الروح! (صدقًا، الأمر يستحق التفكير).
سياق الآية: حكاية إيمان وعطاء
لفهم هذه الآية تمامًا، علينا أن نعود قليلاً إلى سورة الإنسان نفسها. تتحدث السورة عن الأبرار، أصحاب الجنة، وتصف أعمالهم وصفاتهم. ومن أجمل ما وصف الله به هؤلاء الأبرار، أنهم كانوا "يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا، وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا". وبعد هذا الوصف للعطاء، يأتي القول الذي نناقشه: "إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ". هم لم يقولوا هذا بألسنتهم بالضرورة، بل كانت هذه حال قلوبهم ونفوسهم. كان هذا سرّهم الخالص مع ربهم. تخيلوا معي (وهذا مهم جدًا)، أنهم كانوا يعطون الطعام رغم حبهم له، (يعني كانوا محتاجين له أيضًا!)، ومع ذلك، لم يبحثوا عن كلمات ثناء، ولا نظرة امتنان، ولا مكافأة دنيوية. أبدًا. كانت نيتهم صافية، مثل ماء نقي ينبع من صخر.
الإخلاص: قلب العبادة وسر القبول
ماذا يعني "لوجه الله"؟ يعني أن يكون الله هو الغاية الوحيدة من وراء كل عمل نقوم به. لا رياء، ولا سُمعة، ولا طمع في مدح الناس، ولا حتى خوف من ذمهم. فقط الرغبة في رضى الخالق. والإخلاص، كما نعلم، هو روح العبادة. صلاة بلا إخلاص، صيام بلا إخلاص، صدقة بلا إخلاص... كل هذا يفقد قيمته الحقيقية أمام الله. (وهنا مربط الفرس). كثيرٌ منا يحرص على إتقان العمل في ظاهره، وهذا حسن، لكن الأهم هو إتقان النية في باطنه. كيف أضمن أن عطائي خالص؟ سؤال صعب، لكن إجابته بسيطة: راقب قلبك. اسأله: لمن تفعل هذا؟ هل أنت مستعد لتقبل ألا يراك أحد وألا يشكرك أحد؟ إن كانت الإجابة نعم، فأنت على الطريق الصحيح. هذه الآية تُذكرنا بأن الله لا ينظر إلى صورنا ولا إلى أموالنا، بل إلى قلوبنا وأعمالنا.
العطاء بلا مقابل: بناء جسور لا تُرى
عندما نُعطي "لوجه الله"، فإننا في الواقع نبني جسورًا لا تراها العين المجردة. جسورًا تمتد بيننا وبين خالقنا. هذا النوع من العطاء يحررنا من قيود التوقعات البشرية، ويمنحنا سلامًا داخليًا لا يضاهيه شيء. إننا نتخلص من عبء انتظار الشكر، أو حتى خيبة الأمل إن لم يأتِ. ونركز بدلاً من ذلك على العطية نفسها، وعلى الشعور بالرضا الذي يمنحنا إياه فعل الخير. (وهو شعور جميل، صدقًا). كثيرون قد يظنون أن العطاء لمجرد العطاء صعب، أو غير منطقي. ولكن الدين يعلمنا أن هذا هو المنطق الأسمى. أن تفعل الخير لأنك مؤمن بأن الله يرى ويُكافئ، ليس بالضرورة في الدنيا، ولكن بالتأكيد في الآخرة. والعجيب، أن هذا الإخلاص غالبًا ما يجلب البركة في الدنيا أيضًا، ولكنها ليست هي الغاية الأولى.
كيف نعيش هذه الآية في حياتنا اليومية؟
تطبيق مبدأ "إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ" لا يقتصر على إطعام الطعام فقط. إنه مبدأ عام ينطبق على كل عمل صالح.
- في العلم: عندما نتعلم أو نُعلم، هل نبتغي به مرضاة الله، أم شهرة أو مصلحة؟
- في العمل: هل نؤدي عملنا بإتقان لأنه واجب أمام الله، أم فقط لكي نُمدح أو نُكافأ؟
- في الدعوة: هل ندعو إلى الله لنُعرف بأننا دعاة، أم لإيصال الحق وهداية الناس؟
- في مساعدة الآخرين: هل نمد يد العون لمجرد الحصول على شكر أو رد للجميل، أم ابتغاء الأجر من الله؟
- في الصدقة: (وهذا واضح هنا) هل نُعطي ليُقال عنا كُرماء، أم أننا نفضل أن تكون صدقتنا خفية، يعلمها الله وحده؟
علينا أن نُراجع نوايانا باستمرار. الأمر يتطلب يقظة دائمة، ومراقبة للنفس. (صعب، لكنه ممكن).
ثمار الإخلاص: السكينة والقبول
ما هي ثمار هذا الإخلاص النادر؟ أولاً، السكينة والطمأنينة القلبية. عندما يكون همك رضى الله، فإنك تتحرر من قلق الناس وتقلباتهم. وثانيًا، القبول. العمل الصغير مع الإخلاص قد يكون أثقل في الميزان من عمل كبير بلا نية خالصة. ألم يقل النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"؟ هذه قاعدة، نعم، قاعدة لا تتغير. ثم يأتي الأجر العظيم في الآخرة، وهو ما وعد الله به الأبرار: "فَوَقَاهُمُ ٱللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ ٱلْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا، وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيرًا". هذه ليست مكافأة عابرة، بل خلود في نعيم أبدي. (تخيلوا ذلك!)
خلاصة القول
آية "إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللَّهِ" هي دعوة لنا جميعًا لإعادة تقييم دوافعنا. هي دعوة للصدق مع الله، والابتعاد عن كل ما يشوب العمل الصالح من شوائب الدنيا. (فالدنيا فانية، ووجه الله باقٍ). هي تذكير بأن الجودة الحقيقية للعمل ليست في كميته أو مظهره، بل في عمق النية التي تدفعه. فليكن عملنا كله، صغيره وكبيره، "لوجه الله". بهذا، نُفلح في الدنيا والآخرة، ونُصبح من الأبرار الذين وعدهم الله بالجنة. هيا، لنُراجع قلوبنا، كل يوم، (بل كل ساعة!)، ونسعى لأن تكون كل خطواتنا لله.
