نزغ الشيطان: درس يوسف في الصفح وإصلاح ذات البين

تأمل في قصة يوسف والآية 'مِنۢ بَعْدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيْطَٰنُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِىٓ'. اكتشف دروس الصبر، العفو، وسبل التغلب على وساوس الشيطان.

 

صورة ترمز للصفح والمصالحة بعد نزغ الشيطان، في سياق قصة يوسف.

وساوس الشيطان: كيف تلتئم جروح القلوب بعد الفرقة؟

تلك الكلمات البليغة، التي وردت في سورة يوسف (الآية 100)، لا تزال تتردد في الأسماع. هي ليست مجرد آية قرآنية، بل هي شهادة حية على قوة المغفرة والتعافي، ترويها لنا حكاية نبي كريم عاش ظُلمًا عظيمًا. يقولها يوسف الصديق، بعد سنين طويلة من الشقاء والفراق، حين اجتمعت أسرته أخيرًا. "مِنۢ بَعْدِ أَن نَّزَغَ ٱلشَّيْطَٰنُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِىٓ". كلمات تحمل في طياتها حكمة عميقة، تنسب المشكلة لأصلها الحقيقي: الشيطان، لا النفوس الخبيثة بطبعها.

فهم "نزغ الشيطان": ليس مجرد وسوسة

"النزغ" هنا ليس مجرد همسة عابرة؛ إنه فعل خفي، دقيق، يعمل على إحداث شقاق بين الناس. هو سعي دؤوب لإفساد العلاقات، زرع العداوة في القلوب التي كانت صافية. الشيطان لا يأتي بوجه صريح غالبًا، بل يتسلل. يهمس بالشكوك، يزين سوء الظن، يكبر الزلات الصغيرة لتصبح جبالاً من الأحقاد. (وهذا ما حدث بالضبط بين يوسف وإخوته).

الأمر أشبه بزرع بذرة صغيرة من الريبة في تربة خصبة، سرعان ما تنمو وتصبح شجرة شوك تفصل بين الأحباء. تذكر جيدًا، أن الشيطان عدو واضح، لكنه ماكر. لا يحارب بجيوش ظاهرة، بل يقاتل بالهمس، وبالتفرقة، وبإثارة الأحقاد القديمة. وكثيرًا ما ننسى عدونا الحقيقي، ونوجه سهام اللوم لمن حولنا.

قصة يوسف: مثال الصبر والتسامح

حكاية يوسف، عليه السلام، هي خير شاهد على هذا النزغ الشيطاني. إخوته، بسبب الغيرة، وبفعل تأثير تلك الوساوس، فعلوا ما فعلوا. ألقوه في البئر، ثم باعوه. رحلة طويلة من المعاناة بدأت ليوسف: عبدًا، ثم سجينًا. سنوات من البلاء الشديد، ولكن صبره كان عظيمًا. لم يتذمر، ولم ييأس. كان يعلم أن الأمر بيد الله.

عندما اجتمعت الأمة من جديد، ووجد إخوته أنفسهم بين يديه، وهو العزيز، صاحب السلطان، كان الموقف مهيبًا. كان بوسعه أن ينتقم، أن يعيد لهم جزءًا بسيطًا مما أذاقوه. لكن يوسف، بقلب سليم، اختار طريقًا آخر. طريقًا يختلف عن كل ما قد يتوقعه البشر العاديون. اختار العفو. اختار الصفح. وفي لحظة اللقاء هذه، لم يوجه اللوم لإخوته مباشرة، بل نسب الفرقة إلى الشيطان. هذا سلوك الأنبياء، سلوك أصحاب القلوب الكبيرة.

(كم هو جميل أن نرى هذا النموذج في أصعب الظروف). لقد أظهر يوسف قوة داخلية لا مثيل لها، لم تكن مجرد قوة الصبر، بل قوة التحكم في النفس، وتجاوز الألم الشخصي من أجل لم الشمل.

دروس عميقة من كلمات يوسف

هذه الآية ليست مجرد جزء من قصة قديمة، بل هي مرشد لنا في حياتنا اليومية. فلنفكر في بعض ما تحمله من عبر:

1. تحديد العدو الحقيقي

عندما تنشأ الخلافات بينك وبين من تحب، سواء كانوا إخوة أو أصدقاء أو زملاء، حاول أن ترى الأمور بوضوح. غالبًا، ليس الشخص المقابل هو العدو الحقيقي، بل هو متأثر، أو ربما أخطأ تحت وطأة وسوسة أو غضب. الشيطان هو من يريد خراب البيوت وقطع الأواصر. حين ندرك هذا، يتغير منظورنا للمشكلة تمامًا. ننتقل من لوم الشخص إلى فهم تأثير قوة خارجية، وهذا يفتح بابًا للمغفرة.

2. قوة العفو والصفح

لم يكن يوسف ليقول تلك الكلمات لو لم يكن قد صفح وعفا. الصفح ليس ضعفًا، بل هو قمة القوة. هو يعني أنك ترفع نفسك فوق الرغبة في الانتقام. تغسل قلبك من أدران الحقد وتفتح له مساحة للسكون والسلام. العفو يحررك أنت أولاً، قبل أن يحرر من أخطأ في حقك. (وهذا ما نحتاج إليه كثيرًا في زمن تتزايد فيه الضغائن).

3. الصبر الجميل

رحلة يوسف لم تكن سهلة، لكنها كانت مليئة بالصبر. الصبر على الأذى، والصبر على الفراق، والصبر على البلاء. الصبر ليس انتظارًا سلبيًا، بل هو عمل مستمر من الثبات والاحتساب. إنه وقود للعفو والقدرة على تجاوز الأزمات.

4. إصلاح ذات البين: أولوية عليا

"إصلاح ذات البين" يعني مراجعة العلاقات المتصدعة وإصلاحها. الإسلام يولي هذا الأمر أهمية قصوى. فماذا لو أن يوسف قرر معاقبة إخوته؟ كانت الأسرة ستظل ممزقة. لكنه، بقلبه الكبير، جمع الشمل. وهذا يذكرنا بأن روابط الدم، روابط القرابة، هي أغلى ما نملك. إنها تستحق منا أن نسعى جاهدين لترميمها، حتى لو تطلّب الأمر منا تقديم تنازلات أو تجاوزًا عن بعض الأخطاء.

كيف نحمي أنفسنا من نزغ الشيطان؟

للسير على خطى يوسف، نحتاج إلى خطوات عملية:

  • الوعي: أولاً، نعرف أن الشيطان موجود ويعمل. نراقب وساوسه، ونكشف حيلته. عندما تجد نفسك تميل إلى سوء الظن، أو الغضب الشديد من قريب، تذكر: قد يكون هذا من نزغ الشيطان.
  • اللجوء إلى الله: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم هي درعنا الواقي. الدعاء له أن يطهر قلوبنا من الغل والحقد.
  • التغافل: ليس كل خطأ يستحق الوقوف عنده. أحيانًا، التغافل عن زلات الآخرين، خاصة الأقارب، هو مفتاح استمرار المودة. (لا يعني هذا التساهل في الحقوق، بل إعطاء مساحة للتسامح).
  • المبادرة بالصلح: لا تنتظر الطرف الآخر. كن أنت المبادر بالخير، ولو بكلمة طيبة. كم من علاقات انتهت بسبب عناد كل طرف وانتظار الآخر.
  • التفكير في العواقب: ما ثمن الفرقة؟ ضياع المودة، تشتت الأسرة، والعيش في ضنك نفسي. وما ثمن الصلح؟ سلام القلب، بركة في الحياة، ورضا الله.

خلاصة القول

تلك الآية الكريمة، بتفسيرها العملي، هي دعوة لكل واحد منا لينظر في قلبه، وفي علاقاته. دعوة للتسامح، للمغفرة، ولترميم ما تصدع. إنها تذكرة بأن عدونا الحقيقي ليس من حولنا دائمًا، بل قد يكون كامنًا في وسوسة شيطان يحاول بث الفرقة. فلنحذره، ولنتمسك بحبال المحبة والعفو، ونقتدي بيوسف الصديق، الذي أضاء لنا طريق الصفح بعد أشد أنواع البلاء.

فإن سلامة القلوب، وإصلاح ذات البين، هما من أعظم القربات وأجمل المكاسب في هذه الحياة. والمكسب الأكبر هو رضا خالق السماوات والأرض.

إرسال تعليق