أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ: سكينة القلب في زمن القلق
في عالمنا المزدحم، حيث تتعالى أصوات القلق ويشتدّ الخوف من المجهول، يبرز سؤال قرآني عظيم كمنارة هادية، يمسح على القلوب المتعبة، ويجلب لها الطمأنينة. "أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ؟" (الزمر: 36). هذا ليس مجرد استفهام عادي، بل هو إقرار عميق، بل تأكيد جازم من الخالق لعباده. فيه دعوة صريحة للتأمل، ولإعادة ترتيب سلم الأولويات داخل كل نفس.
معنى "الكفاية" الحقيقي
تأمل كلمة "كافٍ". إنها تحمل أبعادًا واسعة. الكفاية من الله تعني العون الذي لا ينفد، والحماية التي لا تزول، والرزق الذي يصل إليك أينما كنت. الأمر يشمل كل شؤون حياتك: صحتك، مالك، عائلتك، مستقبلك، حتى أصغر التفاصيل التي تقلقك. الله سبحانه وتعالى لا يكفي جزءًا من حاجاتك، بل هو كافٍ لكلها. وهو كافٍ لعبده، أي لمن يتعبد له ويقصده ويطلب منه. هنا نقطة مهمة (أفكر فيها كثيرًا): هذه الكفاية ليست سلبية، لا تنتظر منك جمودًا، بل هي تشعل فيك همة السعي والعمل، وأنت واثق بأن النتائج بيده.
إنها مثل الشعور بالأمان عندما ترى يد أمك تمسك يدك بقوة في زحام السوق؛ لا تشعر بالخوف، تعرف أنك محمي. تلك الكفاية الإلهية أكبر وأعمق من أي شعور بشري. فهي تمتد لتشمل كل جانب من جوانب وجودنا، من أول نفَس إلى آخر لحظة.
لماذا هذا السؤال؟
السؤال صيغ هنا بصيغة الاستفهام الإنكاري، وهذا لتقوية المعنى وتأكيده. هو ليس سؤالاً يطلب إجابة، بل هو يضع حقيقة ثابتة أمام أعيننا. إنه يذكرنا بطبيعة وجودنا المحدود وقدرتنا الضعيفة، مقابل قوة الله التي لا تُحدّ. البشر بطبيعتهم يبحثون عن الأمان، عن مصادر القوة، عن من يسندهم في النوائب. وقد يتعلقون أحيانًا بالأسباب الظاهرة، وينسون المسبب الحقيقي.
لكن هذا السؤال يأتي ليعيد بوصلة القلب إلى اتجاهها الصحيح. يوقظ فينا الفطرة التي تعرف خالقها، وتدرك أن كل شيء في الوجود لا يستغني عن تدبيره. هل أنت قلق بشأن رزقك؟ هل تشعر بالوحدة؟ هل تخاف من غد لا تعرفه؟ هذا السؤال يجيبك ببساطة: لا داعي للقلق، لأن من خلقك وتولى أمرك منذ كنت نطفة، لن يتركك الآن.
الطمأنينة وسط عواصف الحياة
تخيل معي أنك تمشي في طريق مظلم. لا ترى شيئًا حولك، والرياح تهب بقوة. فجأة، يظهر نور ساطع أمامك ويسمعك أحدهم يقول: "أنا معك، وأنا أحميك، ولن يصيبك سوء". هذا هو أثر الآية في الروح. إنها لحظة هدوء، لحظة استسلام جميل لتدبير إلهي لا يخطئ. لا يعني هذا أن التحديات ستختفي. (لا، الحياة مليئة بالاختبارات). لكنه يعني أنك لن تواجهها وحيدًا، وأن لك سندًا لا يضعف ولا يغفل.
عندما يستقر هذا المعنى في القلب، تتحول النظرة إلى المصائب. لا تصبح النهاية، بل محطات اختبار، وفرصًا للتقرب أكثر. الشدائد تكشف معادن النفوس، ولكنها أيضًا تكشف عظمة كفالة الله لنا. كم من مرة ظننا أن الطريق مسدود، ثم انفرجت الأزمة من حيث لا نحتسب؟ هذا بالضبط معنى كفايته سبحانه.
كيف نعيش هذه الكفاية؟
ليست الكفاية مجرد شعور، بل هي منهج حياة. تتطلب منك أمرين أساسيين:
- صدق التوكل: وهذا يعني الاعتماد الكامل على الله مع بذل الأسباب. لا يعني التواكل والتكاسل. ازرع الأرض وتوكل على الزارع، اطلب العلم وتوكل على المعلم الأول. الثقة بأن الله لن يضيع جهدك، وأن ما كتبه لك سيصلك.
- حسن الظن بالله: مهما اشتدت الصعاب، تذكر أن الله لا يريد بك إلا الخير. قد لا تفهم الحكمة وراء بعض الأحداث في وقتها، لكن مع مرور الزمن، تتضح لك الأمور. ثق بأن تدبيره أفضل من تدبيرك لنفسك.
وبعد هذا، يأتي دور الدعاء. فالدعاء هو جوهر العبادة، وهو إظهار لضعفك وافتقارك وكفايته هو. ارفع حاجتك إليه، واشكُ همك له. (نعم، هو يسمعك حتى لو لم تنطق بصوت). ثم انتظر الفرج وأنت مطمئن.
في زمن كثرت فيه الهموم
الضغط النفسي، التفكير المستمر بالمستقبل، الخوف من الفشل، كلها أمور ترهق الأرواح. ولكن، أليس الله بكافٍ عبده في كل هذا؟ نعم. هذه الآية هي الرد الشافي لكل تلك المخاوف. إنها تضع نهاية للبحث المضني عن الأمان الزائف في المال أو المنصب أو الناس، وتوجهك إلى مصدر الأمان المطلق. لن يجد الإنسان راحة حقيقية حتى يضع ثقله كله على من يستطيع حمله.
وعليه، لا تلتفت كثيرًا لضجيج العالم الخارجي. بل ألقِ نظرة عميقة إلى داخلك. هل هناك سلام حقيقي؟ السلام يأتي من الإيمان العميق بهذه الكفاية. ومن يظن أن السعادة أو الأمان يمكن أن يأتي من غير هذا المصدر، فإنه يطارد سرابًا.
في الختام، "أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ؟" سؤالٌ، وجوابٌ، ومنهاج حياة. إنه دعوة دائمة للعودة إلى الفطرة، للثقة بالخالق، ولإيجاد السكينة الحقيقية في زمن القلق. لنجعل هذه الآية رفيق دربنا، ومصدر قوتنا، ونور قلوبنا في كل حين.
