"وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ": كلمات تهز الوجدان
"وَيْلٌۭ لِّلْمُطَفِّفِينَ" (سورة المطففين، الآية 1). كلمات ، لكن صداها يمتد، يتردد في كل زمان ومكان. هذه الآية الكريمة ليست مجرد تحذير قديم؛ بل هي ومضة ضوء حادة (أو نار لمن لا يرى) تكشف جانباً دقيقاً من العدالة. إنها تتحدث عن أعمق معاني التعامل بين الناس، عن الأمانة والإنصاف في كل تفاصيل حياتنا.
أصل الحكاية: عدل الميزان القديم
دعنا نرجع بالزمن قليلاً، لنفهم السياق. نزلت هذه الآيات، كما روي، في زمن كان التعامل بالوزن والكيل هو عماد الأسواق. لم تكن هناك عقود معقدة أو معاملات رقمية كما نرى اليوم. كان الميزان رمز الثقة، وكان السوق هو نبض الحياة الاقتصادية. (وتلك كانت أيام، حيث الكلمة وزن). الروايات تخبرنا أن بعض التجار في المدينة المنورة كانوا يميلون إلى أخذ حقهم كاملاً، بل ويزيدون، لكنهم عندما يبيعون، يُنقصون المكيال أو يخدعون في الوزن. ترى الرجل يمسك حجر الميزان، عيناه تلمعان بمكر، وكأن لا أحد يراه. فكانت هذه الآية بمثابة صاعقة، تذكير قاسٍ بأن الله يرى كل خفاء، ويحاسب على أدق الأمور. هي ليست دعوة للتجارة الصعبة، بل دعوة للتجارة الصادقة.
مفهوم "التطفيف": أوسع مما تتخيل
لكن هل يقتصر "التطفيف" على الميزان والكيل فقط؟ لا، مفهوم هذه الآية أوسع بكثير. (وبالفعل، المعاني تتسع). فكر معي في معناها اليوم، وكيف يتجلّى في حياتنا المعاصرة. المطفف ليس فقط من يغش في وزن البضاعة. بل هو أيضاً:
- الموظف الذي يتقاضى راتباً كاملاً، ولكنه لا يقدم العمل المطلوب منه. يهدر الوقت، (تلك الثواني الغالية)، ويُقصّر في مهامه، أو يؤجلها بلا سبب. هذا تطفيف في الجهد والوقت.
- المقاول الذي يتسلم مبلغاً كبيراً لتنفيذ مشروع، لكنه يستخدم مواداً رديئة، أو يغش في التنفيذ، فينهار البناء قبل أوانه. هذا تطفيف أخطر، يمس سلامة الأرواح والممتلكات. (كم من المباني سقطت!).
- الطالب الذي يغش في امتحانه، يحصل على درجات لا يستحقها، ويأخذ مكان غيره ممن اجتهدوا. هذا تطفيف في العدالة التعليمية، يضر المستقبل العام.
- المقدم لخدمة (أي خدمة)، والذي لا يؤدي واجبه بالكامل، أو يخفي عيوباً في عمله، أو يماطل في التسليم، بعد أن اتفق على سعر معين. هذا تطفيف في الجودة والالتزام.
- الزوج أو الزوجة الذي يتقاعس عن واجباته تجاه شريكه، يطالب بحقوقه كاملة، لكنه يبخل بالعطاء والحب والاهتمام. وهذا تطفيف يفكك البيوت.
كل من يأخذ حقه كاملاً، بل ويطالب بالزيادة، لكنه عندما يأتي دور العطاء، ينقص أو يبخل أو يغش، فهو "مطَفِّف" بمعناه الحديث. إنها دعوة للتفكير في كل معاملة، صغيرة كانت أم كبيرة. (وهذا يحتاج لوقفة مع النفس).
العدل أساس المجتمعات: بناء الثقة وسلامة القلوب
تخيل مجتمعاً ينتشر فيه التطفيف. ماذا سيحدث؟ (فكّر للحظة). ستختفي الثقة، ويحل محلها الشك والخوف. لن يطمئن أحد على ماله أو جهده أو حتى وقته. تصبح العلاقات متوترة، والتعاملات مضطربة. الفرد يشعر بالغبن، والمجتمع يتآكل من داخله. التطفيف، وإن بدا بسيطاً في أحيان، هو خرق لنسيج المجتمع. إنه يمزق روابط الثقة التي تجمع الناس معاً. أقولها: الثقة هي اللبنة، اللبنة الأولى لبناء أي مجتمع سليم.
والآية لا تكتفي بوعيد المطففين، بل تشير أيضاً إلى نتيجة هامة: "أَلَا يَظُنُّ أُو۟لَٰٓئِكَ أَنَّهُم مَّبۡعُوثُونَ لِيَوۡمٍ عَظِيمٍ۬ يَوۡمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ" (سورة المطففين، الآيات 4-6). هذا تذكير بأن هناك حساباً، وأن العدالة الإلهية مطلقة، لا يخطئ فيها ميزان.
كيف نحمي أنفسنا ومجتمعاتنا؟
الحماية تبدأ من الفرد. تبدأ من قرار داخلي (وقرار قوي) بأن نكون منصفين، عادلين، في كل ما نفعل. لا تطفيف في القول، ولا تطفيف في العمل، ولا تطفيف في العطاء. كن واضحاً في تعاملاتك، أعطِ الناس حقهم كاملاً، بل زد إن استطعت. (الزيادة خير). راقب نفسك دائماً، واسأل: هل أنا آخذ حقي كاملاً وأعطي أقل؟ هل ميزاني يميل لصالحي دون وجه حق؟
الشفافية في الأعمال، الصدق في الأقوال، الالتزام بالعقود، إتقان العمل. كل هذه مبادئ تقضي على التطفيف وتغرس العدل. عندما يرى الفرد أن مجتمعه يتمسك بالعدل، فإنه يطمئن، ويزدهر العمل، وتطيب النفوس.
خاتمة: دعوة للإنصاف في كل شيء
"وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ". إنها ليست مجرد آية للقراءة، بل هي منهج حياة. منهج يدعونا إلى مراجعة كل تفاصيل تعاملاتنا. دعوة لأن يكون كل منا ميزاناً للعدل، لا يميل ولا يحيد. تذكر، العدل ليس فقط في أخذ حقك، بل هو أساساً في إعطاء الحقوق كاملة للآخرين. (وهذا هو بيت القصيد). فلنجعل الأمانة والإنصاف سمتنا في كل خطوة، لبناء مجتمعات قائمة على الثقة والبركة.
