نتنفس، نتحرك، نعمل. وفي كل خطوة، في كل نفس، سؤال يلحّ بهدوء: هل يذهب كل هذا سدى؟ هل يُنسى الجهد؟ هل تتلاشى التضحيات مع الأيام؟ ثم تأتي تلك العبارة القرآنية لتجيب جوابًا شافيًا، كلمة تلو الأخرى، بصوت حكيم، بصوت مطمئن كهمس في الأذن: "إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ". (أحيانًا، تتوقف الروح عند كلمات قليلة فتكتشف فيها معنى عميق). إنها ليست مجرد حروف تُقرأ، بل هي وعد، هي ضمان إلهي بأن لا شيء يضيع. كل تعب، كل إنفاق، كل صَبر، له مكان محفوظ، له تقدير لا ينتهي. وهذا يغير نظرتك تمامًا للحياة، ويمنحك قوة لم تكن تعرفها.
الميزان الدقيق: معنى "إلا كتب لهم"
لفهم هذا الوعد الجميل، علينا أن نقف عند كلماته. "إلّا" أداة استثناء هنا، تعني "فقط" أو "ليس هناك أمرٌ آخر إلّا هذا". (وهذا يبرز حصريّة الفضل). و"كُتبَ" فعل مبني للمجهول، يدل على أن هناك "كاتبًا" عظيمًا لا يغفل، وهو الله سبحانه وتعالى. إنها إشارة إلى التسجيل، إلى التدوين الدقيق، الذي لا يخطئ. لا يكتبه بشر لينسوه أو يغيروه، ولا يكتبه حاسوب ليتعطل أو تُحذف بياناته. بل هو مكتوب في سجلات إلهية، لا يطالها نقص، ولا يعتريها زوال. وهذا ما يمنح العبارة قوتها.
ثم تأتي "لَهُمْ": هذا الظرف يُظهر المنفعة الشخصية والخاصة. أي أن هذا التسجيل ليس عليهم، ليس عبئًا أو حسابًا ضدّهم، بل هو لهم، في صالحهم، زيادة في حسناتهم. إنه ملك لهم، رصيد لا يفنى ولا ينقص، يُضاف إلى ميزان أعمالهم الصالحة. وهذا يبرز كرم الله وفضله الواسع، فكل جهد طيب منك هو لك وحدك.
التفصيل الرباني: كل خطوة تُحسب
هل فكرت يومًا أن السير في طريق الخير، حتى المشي البسيط، يُعدّ ويُحصى؟ الآيات الكريمة، ومثلها أحاديث النبي (صلى الله عليه وسلم)، تُبين هذا بوضوح لا لبس فيه. مثلاً، إذا خرجت من بيتك قاصداً المسجد أو لعيادة مريض أو مساعدة محتاج، فإن كل خطوة تُرفع لك بها درجة، وتُحط عنك بها خطيئة. (أنت فقط تمشي، والله يكرمك بكل هذا). فالجهد البدني، وإن كان شاقًا ومرهقًا، لا يذهب سدى أبدًا.
والنفس التي تتعب من أجل مرضاة الله، حتى مجرد التفكير في الخير والنية الحسنة قبل الفعل، كلها تُكتب. تخيل طالب علم يجلس الساعات الطوال يقرأ ويدقق بين صفحات الكتب الصفراء، أو عامل يقوم في الفجر ويبذل عرق الجبين ليطعم أسرته بالحلال ويصونها عن سؤال الناس. كل تلك اللحظات، كل تلك القطرات من العرق المتصبب، كل تلك الأفكار الصافية، "إلّا كُتب لهم". إنها تفاصيل الحياة اليومية الدقيقة التي نمر بها، ولكنها عند الله ذات قيمة لا تقدر، تُضاف إلى رصيدك.
الإنفاق في سبيل الله: لا يضيع مثقال ذرة
كم مرة ترددنا في العطاء؟ "هل سيصل المال لمن يستحقه؟" "هل سيقدّر الجهد المبذول في مشروع خيري؟" عبارة "إلا كتب لهم" تزيل كل هذه الشكوك والتردد. كل ما ينفقه المؤمن، من ماله الخاص، من وقته الثمين، من علمه الذي اكتسبه، من جهده البدني أو الفكري، في سبيل الله، فهو محفوظ عنده.
سواء كان درهمًا واحدًا يضعه شخص في يد فقير لا يراه الناس، أو صدقة جارية ضخمة تُبنى بها مدرسة أو مستشفى ويعرفها الجميع. حتى الابتسامة الصادقة في وجه أخيك المسلم، أو الكلمة الطيبة التي تُجبر بها خاطرًا مكسورًا، تُسجل لك. وهذا لأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. إنه سبحانه يعلم السر وأخفى، ولا يغيب عنه شيء. لا تظن أن عملك صغير جدًا لدرجة ألا يُلاحظ، فما يراه الناس قليلًا، قد يكون عند الله جبلًا من الحسنات. وهذا يعطي دفعة قوية للنفس، ويدفعها للعطاء بلا حساب.
الصبر والمواجهة: الأجر المضاعف
الحياة بطبيعتها مليئة بالتحديات؛ ألم جسدي، مرض مفاجئ، فراق عزيز، ضيق في الرزق، اختبار في العمل. وفي خضم هذه التجارب القاسية، حين يصبر الإنسان، وحين يواجه بصدر رحب وإيمان قوي بقضاء الله وقدره، كل ذلك الصبر لا يذهب هباءً. إن الله لا ينسى المتألمين ولا المبتلين.
"إلا كتب لهم" يعني أن كل آهة مكتومة في الليل، كل دمعة تنهال على وسادة في خفاء، كل كبت للغضب الشديد، كل مسامحة رغم الألم العميق، يُسجل ويُجازى عليه. وهذا ليس جزاءً عاديًا أبدًا، بل هو جزاء يتناسب مع عِظم البلاء وعمق الصبر الجميل. (أتفكر أحيانًا كيف أن المعاناة التي نمر بها قد تُصبح رصيدًا ثمينًا يوم لا ينفع مال ولا بنون). إنها دعوة قوية للتفاؤل حتى في أشد الأوقات صعوبة وظلامًا، فهي تضيء طريقك.
الدافع الأبدي: الأثر النفسي والإيماني
هذا المبدأ العظيم "إلا كتب لهم" يزرع في القلب اليقين المطلق والطمأنينة العميقة. يجعل المؤمن يعمل ويُعطي ويصبر وهو يعلم علم اليقين أن جهده لن يُنْسى. لا يحتاج إلى تقدير الناس، ولا إلى ثناء المحيطين به أو تصفيقهم. فالمُقدّر الحقيقي هو الخالق، وهو يكفي ويعلم كل شيء.
وهذا يعطي قوة نفسية هائلة، يرفع الروح المعنوية، ويقوي العزيمة، ويجعل المرء يسعى للكمال في عبادته وعمله، لا لأنه مجبر على ذلك، بل لأنه يدرك القيمة الحقيقية لما يقدمه. (وبعض الناس قد يقول متسائلًا: "لكنني لا أرى شيئًا من هذا الأجر في الدنيا الآن!"). هنا يأتي الإيمان بالجزاء الآجل، الذي هو خير وأبقى. فالأجر ليس بالضرورة نقودًا في جيبك، قد يكون سلامًا في قلبك لا يزعزعه شيء، أو توفيقًا في أمر كنت تظنه مستحيلًا، أو دعوة صالحة من غريب لم تتوقعه، أو جزاءً موفورًا ومضاعفًا في الآخرة. إنها نظرة شاملة للحياة، تربط الدنيا بالآخرة، وتملأ القلب بالسكينة.
الخلاصة: نور الأمل والعمل
إذًا، "إلا كتب لهم" هي أكثر من مجرد عبارة قرآنية. إنها مرآة تعكس العدل الإلهي المطلق، والحكمة التي لا تُحدّ في تدبير الكون وشؤون العباد. هي حافز للعمل الدؤوب، لكل عمل صالح، مهما بدا صغيرًا أو غير ملحوظ في نظر الناس. وهي باعث على الأمل العظيم، على الثقة الراسخة بأن كل ما بذلته، كل ما تحملته، محفوظ لك عند ربك الكريم.
وهذا يجعل للحياة معنى أعمق، لا يتوقف عند اللحظة الحاضرة. ويجعل للإنسان قيمة تتجاوز ما تراه العين المجردة من مكاسب دنيوية. اجعلها شعارك اليومي، وتذكر دائمًا أن كل خير تفعله، وكل شر تجتنبه خوفًا من الله، كل كلمة طيبة تخرج من فمك، وكل نفس صابر على بلاء، كل ذلك يُكتب لك. إنه رصيدك الحقيقي الذي لا ينفد، وهو خير لك من كنوز الدنيا وما فيها. (تذكر هذا جيدًا).
